هذا مقتطف من خطاب ألقاه السيد أحمد الخميني قدس سره في الذكرى الثانية لرحيل الإمام قدس سره بدعوة من جمعية المرأة المسلمة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وحيث أنّه يظهر فيه جانب من أنواع المآسي والآلام التي كان الإمام يقاسيها في جهاده ومعظمها كان مخفياً فقد آثرنا نشره تعميماً للفائدة ووفاءً للإمام في ذكراه الثامنة.
إنّ كل صفحةٍ من صفحات الفترة الخانقة المؤلمة التي طواها الإمام حتى تمكّن من خلقِ ثورةٍ ثقافيةٍ كهذه، مشحونةٌ بالمرارة وبكل ما لا يستساغ، وبالتهم وأنواع العقبات...، تلكَ الصفحات ظلّت. وللأسف الشديد. مجهولةً مطويةً لم تطالعها العيون حتّى يومنا هذا.
لقد طوى الإمام طريقاً طويلةً بمنتهى الوعورة، حفّت به آلاف الآلاف من المشاكل والصعوبات لكي يتمكن من الاحتفاظ براية الثورة والجهاد الحمراء عند عبوره كلّ الأحداث والوقائع السياسية وليرفعها في النهاية خفاقة على إيران الإسلامية بأسرها بَعدَ مواطنَ مدهشةٍ في عشرة الفجر المباركة التي توجت بالثاني والعشرين من بهمن الخير. (يوم الانتصار الموافق 11 شباط).
ولا يمكن مقارنة الوقوف في ميدان المواجهة للمتجبرين والمتسلطين والمستبدين كنظام الشاه المقبور مع الوقوف في ميدان الجهاد المحتدم أمام عشرات التيارات التي انبرت باسم الدين والإسلام لمواجهة المنهج الفكري الإسلامي الصحيح. فأقصى ما كان يحتمل فالميدان الأول هو التعرض للسجن والتعذيب الجسدي والنفي وانسفاك الدم الذي يتحتم تقديمه في سبيل التحرّر والانعتاق، أما في الميدان الآخر فإنّ الأمر يحتاج إلى عدم الالتفات إلى ذهاب الحيثية، والمكانة الاجتماعية، وتحمل احتقان القلب نتيجة الألم، والصبر والتحمّل لكسب رضا الله تعالى، مع الوقوف حيال سيل التهم المتلاحقة، وحيال الألسنة الحادّة، كالنضال لأجل كسرِ الجمود والركود والسطحية، لكي تعود الحوزات العلمية مرةً أخرى مشعلاً متقداً بنور الإسلام الأصيل البعيد عن القشور والأوهام وجعل الروحانية المؤمنة طليعة النهضة والثورة الإسلامية كما هي حالها دوماً.
إنّ كلامنا هذا ليس خطبةً حماسيةً، ولا شعاراتٍ جوفاء، إنّه مجموعةٌ من الحقائق التي يحتاج الإيمان والتصديق بها إلى معرفة الأسلوب الذي استطاع به الإمام طيّ طريق الثورة الوعرة الطويلة وغير السالكة تلك، فلم يكن الأمر انتفاضةً مفاجئةً للإمام في عام هـ ش (1963م)، وإطلاقة صيحته بوجه الظلم، ثم وبمجرد سقوط أنصاره صرعى، والقضاء على نهضته انصرف بعد نفيه إلى الدرس وإلى ممارسة شؤون حياته الخاصّة وشؤون مرجعيته، ثمّ ليعود من جديد بعد خمسة عشر عاماً إلى إيران، ويقيم حكومته! لقد كان الإمام بحاجة إلى ثورة ثقافية بكل ما للكلمة من معنى، لكي يتمكن منكسر سدّ الجمود ورفع شعار "الجهاد من أجل إقامة الحكومة الإسلامية" على أنّه أهمّ التكاليف الإلهية الموجّهة للمكلف، وطرحه في الحوزات العلمية أولاً، ثمّ على مستوى المجتمع ثانياً.
مرّ الإمام قدس سره بظروفٍ اضطر فيها للمبادرة وبدا لأداء تكليفه الإلهي، ويشير سماحته إلى تلك الظروف قائلاً: "إحدى القضايا التي ينبغي أن تُحدّد معالمها للطلبة الشبان، قضية النهوض التي مارسها البعض، ففي فترات نفوذ القشريين – الأغبياء السذج الجهلة – وحيث كانت تسود روح الأنانية نهض البعض شاحذين الهمم من أجل إنقاذ الإسلام والحوزات العلمية والروحانية حاملين الأرواح على الأكف وغير مبالين بتقييمات الآخرين لهم".
"لم تكن الأوضاع كحالها اليوم فكلّ من كان ينقصه الاعتقاد التام بالجهاد كان ينسحب من الميدان تحت الضغوط القاسية والتهديدات التي يمارسها أولئك القشريون".
وفي مقطع آخر يخاطب الروحانيين فيكتب قائلاً "لا شكّ أنّ الروحانيين المجاهدين تحملوا النصيب الأكبر من التجريح، لا تتوهموا بأن اتهام الروحانيين بالعمالة وعدم التديّن قد جاء من الأجانب فقط، أبداً، فإنّ الضربات الموجهة من بعض المعمّمين السذج، أو المرتبطين، كانت ولا تزال أكثر إيلاماً من ضربات الأجانب! في أوائل بدء النهضة الإسلامية، كنت إذا قلت: بأن الشاه خائن، تسمع الجواب يأتيك فوراً: الشاه شيعي!".
"كان بعض القشريين الرجعيين يعتبرون كلّ شيء حرام، ولم يكن أحدٌ يتمكن من الوقوف بوجههم أو ان يتحدّاهم..
إنّ الألم الذي تحمله أبوكم العجوز من تلك المجموعة المتحجرة، لم يواجه مطلقاً نتيجة مختلف الضغوط والصعوبات الناجمة عن ممارسات الآخرين!! حينما راج شعار "فصلُ الدين عن السياسة"، وصار الفقه في نظر الجهلة مجرد الخوض في الأحكام الفردية والعبادية، طوّق الفقيه ولم يسمح له بالخروج على دائرة الحصار المفروض ذاك، والتدخل في السياسة أو شؤون الحكومة. وأضحى جهلُ الروحاني وبساطة تفكيره عند معاشرته الناس فضيلة – كما كان يزعم البعض – فإنّ الروحانية ستكون موضعاً للتقدير والتكريم فقط حينما يكون الروحاني ساذجاً إلى أبعد الحدود، وإلاّ فإنّ عالِم الدين السياسي والروحاني الفطن اللوذعي، كان مشكوكاً في أمره، وقد كانت هذه من الأمور المتعارف عليها في الحوزات ذلك الوقت، فكل من كان يمشي مطاطئاً رأسه فهو الأشدّ تديّناً، في حين أن تعلم لغةٍ أجنبية كان يعدّ كفراً، ودراسة الفلسفة والعرفان خطيئةً وشركاً!!".
"كان المرحوم (مصطفى) صبياً وشربَ مرةً من آنية الماء في المدرسة الفيضية فبادروا إلى تطهيرها بالماء فوراً، لماذا؟ لأن كنت أدرس الفلسفة. لا ينتابني شكّ أن الروحانية والحوزات كانت ستنتهي إلى مصير الكنيسة في القرون الوسطى لو أنّ ذلك النمط من التفكير استمرّ فيها، ولكن الله منّ على المسلمين والروحانية بأنْ حفِظَ للحوزات كيانها وعزتها ومجدها الحقيقي. ومن هذه الحوزات تخرّد العلماء التدينون بحق، وفيها تربوا وترعرعوا، وقد امتازوا عن الآخرين، ومن بارقةِ الأمل تلك نشأت ثورتنا الإسلامية".
إذاً! فإنّ على الطلبة الشبان في الحوزات العلمية خصوصاً، وجيل الشبان الثوريين عموماً أن يطّلعوا على الظروف التي أحاطت تكوين النواة الأولى لثورتهم، والمرارات والصعوبات التي تحمّلها الإمام وأنصاره حتّى تمكّنوا من إعادة الإسلام من جديد إلى مجرى الحياة.
يوضّح الإمام في أحد أحاديثه نوع المنهج الفكري الذي كان سائداً في الحوزات والمجمتع في ذلك الوقت فيقول: "في السنة التي وفدتُ فيها إلى قم – أو السنة التي تلتها – كانوا يروجون نوعاً من الأفكار في قم، فحينما يكون أحد الروحانيين عرضةً للاتهام والطعن به من قِبل الناس، فإنّهم كانوا يقولون: لقد عُثِرَ على صحيفةٍ في منزلهِ! فالعثور على صحيفةٍ في منزل أحد الروحانيين كانَ يعدّ نقصاً وعيباً. وعبارة (فلان معمم سياسي)! كان تعدّ طعناً به".
لقد كان الجو العام السائد آنئذٍ يجعل المعمم يخاف من اتهام الناس له إن هو أراد التدخل في بعض الأمور السياسية، فهو سيتعرض للانتقاد والتمزيق والطعن فيه، وبالتالي فسوف يُعزل عن المجتمع. إنّ الصيحة التي كان الإمام قدس سره قد أطلقها على أمل إيقاظ أولئك القابعين في منازلهم من هجعتهم أو – على الأقل – الإعلان للعالم أجمع عن استنكار الإسلام الحقيقي والروحانية الواقعية، الاستخفاف بهم وظلمهم، لم تكن بلا ثمن، فقد تحمل الإمام وأنصاره مقابل هذه الصيحات والاعتراضات، عبئاً ثقيلاً يعادل ثقل خمسة عشر عاماً من الألم، وتلقّي التهم الباطلة، والتآمر والتكفير، وسماع أشدّ أنواع الجارح واللمز.
وهي الصيحات التي كان الإمام قدس سره يقول فيها "الويلُ لنا، الويل للعلماء الساكتين، الويل للنجف الساكتة، الويل لطهران الساكتة، لمشهد الساكتة، هذا السكوت القاتل، هو الذي سيسمح لإسرائيل أن تسحق بلادنا وتنتهك حرُماتنا بواسطة هؤلاء البهائيين، الويل لنا، إنّ السكوت اليوم يعدّ إعانة للنظام المتجبر".
"عليكم أن تستيقظوا وتوقظوا النجف، اعترضوا.. وإذا لم يعترضوا هم (في النجف) أيسقط عنا نحن التكليف؟ أو نقعد ونعاين ما يحلّ بالشعب؟ أو يكفي أن نتردّد على مرقد الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) ونتضرع بالدعاء؟ أيكفينا هذا المقدار؟ أم أنّنا نعيش في ظلّ الإسلام وبأموال الإسلام، أفلا ينبغي أن نتحرّك قليلاً في سبيل الإسلام.
فإذا قُمتم بإرشاد الناس وتعليمهم الإسلام فإنّكم خلفاء وأولياء للإسلام، ولا تقولوا دع الأمور حتّى يظهر صاحب الأمر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف).. ولا يكن منطقكم يجبُ ترويج المعاصي والمفاسد حتى نعجل على ظهور إمام الزمان (عليه السلام).. ولا تقعدوا هنا لمجرّد المباحثة والدرس. إنّ لكم في المجتمع هيبة وسمو مكانةٍ، الشعب المسلم يحترمكم، ويرى لكم مقاماً خاصاً، إنّ هذه الهيبة والعزة التي يعاملكم بها المجتمع، ليس إلاّ لأنه ينتظر منكم القيام بالحقّ بوجه الظلمة، والانتصاف للمظلوم من الظالم، فهم يأملون فيكم القيام والوقوف بوجه ظلم الظلمة. لقد وجدتم مقاماً ومكانةً تنتظركم في المجتمع غير أنكم حينما بلغتموما لم تؤدّوا حقّها.
إنّكم لا تستفيدون من المنزلة التي خصصتم بها، لا بل لا تعينون من يبادر منكم إلى أداء مسؤوليته، وما يسركم ويسعدكم هو أن يكون الظالم ظهيراً لكم، ويعاملكم باحترام، فإذا ناداكم: أيّها الشيخ الكبير! فلا شأن لكم بعدها بما سيحلّ بهذا الشعب، وبما تفعله الحكومة".
ولم تكن هذه التحذيرات ومئات مثلها مما يجري على لسان الإمام وقلمه مما يمرّ ببساطةٍ هكذا وينتهي، فالآثار الناجمة عن كلّ حديث أو بيان لم تنحصر في ارتواء القلوب العطشى من فيض النداء الذي يخاطب الفطرة ويؤدي إلى انضوائهم تحت راية الثورة فقط، بل تتعدى ذلك إلى تزايد الأحقاد ومشاعر الحسد أيضاً، ليثير وراءه زوبعة من المطاعن والتجريحات تهبّ صوب الإمام!
إنّنا مكلفون أن نُطلع الجماهير على الظروف التي كان إمامهم يمارس فيها نشاطه في الدفاع عن حرمات الإسلام، والمرارة التي تجرّعها حتّى تمكن من إعادة العزّة والمجد للمجتمع الذي تميز حينها بالخمول والركود، إن علينا أن نُطلع الجماهير العزيزة لماذا اختار نظام الشاه المقبور (بناءً على سياسةٍ أعدت في البيت الأبيض بُعيدَ القضاء على انتفاضة الخامس عشر من خرداد) النجف كمنفى دائم للإمام؟ كم هو مؤلمٌ التعرض للحديث عن الأحداث المرّة لتلك الفترة، تمنيت أنكم عاصرتم الإمام في تلك الآونة، لتلمسوا بأنفسكم عمق الألم والمعاناة التي كانت تعتملُ في داخله..
ولا يمكنُ من خلال مقالةٍ أو كتابٍ وصفَ المظلوميات والآلام التي ما تحملها الإمام من الأجانب وإنّما من داخل الحوزات، من أولئك المقدسين المترفيين وغير المحتسسين بالمسؤولية. ولعلّ العبارة التي قالها الإمام ساعة مغادرته النجف الأشرف، توضح لجماهير شعبنا العزيزة – التي عاصرت وشهِدت صبر الإمام وتفانيه في أشدّ الوقائع والأحداث قسوةً بعد انتصار الثورة الإسلامية – المعنى الذي نشير إليه، فقد قال "لقد كنتُ مستأنساً بوجودي إلى جوار المرقد الشريف لأمير المؤمنين (عليه السلام) ولكنّ الله وحده يعلم ما الذي تحملْته من الموجودين هنا خلال تلك المدّة".
إنّ الإمام الذي لم يكن مستعداً أبداً لمقايضة الدفاع عن كيان الإسلام بكلّ ما يستتبع ذلك من مصاعب ومتاعب. بالقعود المسترخي في المنزل والتوجه إلى الدرس والمباحثة والصلاة، والسلام! كان يرى أن تحمل جميع الضغوط التي يمارسها الشاه، وسماع أخبار استشهاد أنصاره وتعرضهم للتعذيب، وتحمل الضغوط التي يمارسها أزلام السلطة في العراق من البعثيين في النجف... كل ذلك أخفّ وطأة عليه من الكلام الجارح والتهم الباطلة والخطّطات المحاكة من قبل أدعياء الفقاهة والإسلام والدين والروحانية.
لقد كان مطلوباً من الإمام في النجف أن ينهض بمسؤولية إدامة النهضة والتحرك، وأن يقف بوجه أمريكا ونظام الشاه، اللذان لم يدّخرا وسعاً في سبيل محو آثار انتفاضة الخامس عشر من خرداد وإزالة ذكرها، وان يسعى إلى عدم ذهاب الدماء التي سالت من أولئك الشهداء الأطهار الذين سقطوا ظلماً وعدواناً في شوارع وأحياء وأزقّة قم وطهران وسائر المدن الإيرانية هدراً وسدى، ولكلّ ذلك كان ينبغي تأمين الارتباط المستمر بإيران، الأمر الذي كان – يعدّ مع وجود جهاز (السافاك) الجهنمي، وتعاون أفراده مع رجال الأمن العراقيين الذين كانوا يفرضون بدورهم رقابة شديدة على بيت الإمام في النجف – أمراً معقداً للغاية، فضلاً عن تعرض أنصار الإمام ومريديه إلى الاعتقال والسجن أو النفي والمراقبة، ومع كلّ ذلك الإمام يعتقد أنّه مسؤول وأن من مسؤوليته تفقد عوائل الشهداء وتأمين احتياجاتهم، ترتيب الاتصال والارتباط بين العناصر المؤمنة بالثورة سواءً في الداخل أو الخارج، لكي يتمكن – من خلال تبادل المعلومات والأخبار الخاصّة بالثورة، ومتابعة البرامج ودراسة أوضاع نظام الشاه – من تحقيق الرشد والنضوج الفكري للثوار، ثم ّ إبقاء مشعل الثورة متّقداً ومرفوعاً وذلك عبر مواصلة إرسال الأحاديث والبيانات والكتب. ومن جانب آخر فقد كان يرى أنّ من واجبه إحباط المؤامرات التي يقوم بها أعداء الثورة على مستوى العالم الإسلامي، وكذلك تجاوز العقبات والعراقيل التي كان يفتعلها المتلبّسون بالروحانية، غير أنّ مسؤولية إدامة النهضة لا تقتصر على الحضور الفعّال في الميادين التي أشرنا إليها.
لقد شهد المحتجرون والمقدسون القشريون المذبحة المفجعة التي ارتكبها النظام في الخامس عشر من خرداد، غير أنّهم لم يكتفوا بعدم تأييد الانتفاضة أو عدم الدفاع عن تلك الدماء فقط، وإنما راحوا يبرّرون سكوتهم وذلك بطرح العشرات من علامات الاستفهام والانتقادات مشككين من خلال ذلك بحقانية الإمام قدس سره في نهضته.
يقوم الإمام واصفاً هذا التيار وصفاً حاداً "إنّ ترويج الفكرة القائلة بأنّ (الشاه هو ظلّ الله في الأرض) أو ترديد الكلام القائل بأنّنا لا يمكننا أن نواجه المدافع والدبابات بقبضات خالية! (إنّنا غير مكلفين بالجهاد!) و (مَن الذي سيقدمُ الإجابات عن دماء هؤلاء المقتولين؟) والأكثر إيلاماً من كلّ ذلك، رفع شعار (كلٌ راية تُرفع من قبلِ ظهور صاحب الأمر (أرواحنا فداه) فهي راية ضلال). وآلاف المقولات الأخرى التي كانت تمثل مشاكل كبرى لا تطاق، والتي لم يكن ينفع معها النصح أو المواجهة السلبية أو التبليغ".
كان الجهاد وتقديم الدماء في سبيل الله هو الحل، الأمر الذي هيّأ الله تبارك وتعالى مستلزماته، فالعلماء والروحانيون المؤمنون قد استعدوا لأن يتلقوا بصدورهم كلّ إطلاقةٍ سامةٍ تنطلق نحو الإسلام، وانطلقوا نحو مذبح العشق والشهادة مستبشرين.
وقد كان الإشكال الأساس الذي أثاروه على الإمام هو: أن تدخله في السياسة ونهضته أدّت إلى تعطيل درس أولئك المحترمين وبحثهم!!، والأنكى من هذا أن البعض شنّ حملةً شعواء على الإمام بعد أحداث الخامس عشر من خرداد، وهم يُعلنون بمنتهى الصلف وقلّة الحياء بأن: نهضته أدت إلى انتهاك حرمة المراجع! ذلك لأن صرخته قد أدّت إلى اعتقاله هو، وبذا فقد فُتح الباب أمام اعتقال المراجع في المستقبل! تأمل في المستوى الرفيع من الشعور بالمسؤولية وإدراكها!
هؤلاء هم القشريون الحمقى الذين تسبّبوا عبر تصرفاتهم وأحاديثهم في جرّ المتدينين غير الواعين نحو الضياع، ودفعتهم نحو زوايا العزلة وعدم الاكتراث. وقد أدّى ذلك بالنتيجة إلى إضعاف مكانة علماء الدين، كانوا دوماً الطليعة التي رفعت لواء الجهاد في المجتمع، لقد تسبّبت تصرفات أولئك وأفكارهم المتحجرة إلى غربة دين الله، وانسياق الكثير من الشبان المسلمين الأبرياء وراء الأفكار والعقائد المنحرفة.
وهؤلاء المتحجرين، هم ذاتهم الذين يفرّون من الاستدلال العلمي ويتحاشونه، وهم ذاتهم الذين يعتبرون الأمور الفلسفية دون شأن الروحاني، وكانوا يمسكون الكتب الفلسفية بملقطٍ حتى لا تتنجس أيديهم!!
كانَ منزل الإمام الصغير في النجف الأشرف مشعلاً للثورة ومتعلقاً لآمال الشعب، كما كان في الوقت ذاته هدفاً لمختلف أنواع الضغوط التي كانت تمارسها عليه حكومتي الجور والاستبداد في إيران والعراق، بالإضافة إلى أنّه كان هدفاً للحملات والهجمات القاسية كلّ ما يجرح ويُشين من قبل أولئك الذين كانوا يرون أنّ قيام الإمام ونهضته ستعصف بكلّ حياتهم الوادعة.
قد لا تصدقون إذا أخبرتكم أنّ هذا الإمام الذي لم يترك صلاة الليل والتهجيد والتضرّع ليلةً واحدة أبداً، حتّى وإن كان ملقىً على فراس المرض. هذا الإمام الذي كتبَ كتابَه العميق المحتوى "أسرار الصلاة" وهو في سن السابعة والعشرين، ثمّ أتبعه بكتاب "آداب الصلاة" هذا الإمام الذي فارق الدنيا وهو في حال الصلاة، فانتقل إلى جوار محبوبه ومعشوقه، هذا الإمام... وصفه هؤلاء المقدسون القشريون المتحجرون في النجف بأنّه "تارك للصلاة"!!
ومن نفس هذا الصنف كان ذلك البعض من الذين يقفون في الطريق الذي يسلكه الإمام بين مكان درسه ومرقد أمير المؤمنين (عليه السلام) لكي يظهروا له عدم احترامهم حينما يمرّ من هناك هادفين جرح مشاعره وإلحاق الأذى والألم بقلبه النوراني الطاهر.
في المرحلة التي كان أنصار الإمام يعانون فيها من صعوبات مالية بالغة في توفير أجهزة التسجيل وأشرطة الكاسيت والورق اللازم لطبع ونشر البايانات الصادرة عن الإمام قدس سره، وطبع الكتب التي يؤلفها مضحّين بأرواحهم وهم يسعون لإحياء ذكرى نهضة الخامس عشر من خرداد حتّى تتواصل النهضة وتستمرّ؛ وفي الفترة التي كان الدعم المالي عاملاً حاسماً في دفع عجلة الثورة، كان البعض من هؤلاء الذين سبقت الإشارة إليهم يستلمون الحقوق الشرعية في إيران والنجف ويسلّمونها إلى من يقومون بإنفاقها سراً في التآمر على الإمام والثورة.
كان المعممون المتحجرون في إيران والعراق وبواسطة بعض المندسّين المتظاهرين بالصلاح، يأخذون الكتب والمنشورات الصادرة عن الإمام قدس سره والتي كان إصدارها يتعرّض لآلاف المشاكل والمصاعب، وذلك بذريعة توزيعها في البصرة ومدن العراق الأخرى وفي إيران، ثم يقومون بإلقاءها في المجاري والأنهار!
إنّ المصاعب التي واجهها الإمام لا تنحصر في الضغوط التي كانت تمارس ضدّه من قبل نظام الشاه وأمريكا، وإلاّ فإنّ فك قيد الأسر الذي قُيّد به الشعب المسلم منذ ألفين وخمسمائة عام أمر ممكنٌ وقابل للتحقّق بممارسة دور القيادة بشكل صحيح وبالثورة الجماهيرية الدينية الشاملة وبذلك الأنفس والأموال (وهذا ما تحقّق كما نرى)، أمّا بماذا يمكن مواجهة أولئك الذي يهبّون باسم الدين والفقاهة والزهد والقدسية، لمواجهة الإسلام الحقيقي؟
تأملوا قليلاً في حديث الإمام قدس سره المؤلم هذا "في الخامس عشر من خرداد 1342ش، لمن نكن نواجه رصاص البنادق الرشاشة لأزلام الشاه، ولو كانت المواجهة اقتصرت على ذلك لهان الأمر، فقد ترافق ذلك مع رصاص مكرِ المقدسين القشريين والمتحجرين من داخل جبهتنا ومن بين صفوفنا، ورصاص الألسن الحاد اللاذعة والنفاق والتزييف الذي يفوق البارود والرصاص في أثره على القلب والروح ألف مرّة".
"حقاً، لقد كان خطّ الروحانية الأصيل يبكي دماص في غربته وقيده، على ما تريد أمريكا وخادمها المطيع الشاه أن يفعلوه من اقتلاع لجذور التدين والإسلام، وما تريده تلك المجموعة من المعممين المقدسين القشريين المغفلين أو المستغفلين – الذين انكشفوا على حقيقتهم بعد انتصار الثورة – من مواصلة طريق الخيانة تلك .. ولنترك الحديث عن ذلك ونتجاوزه حتى لا تكدر القلوب أكثر من هذا".
نعم، إنّي وجميع من شهدوا حوادث الثورة المؤلمة، والأسى الذي تحمّله الإمام قدس سره، مكلفون بتوضيح الحقائق بشكل صحيح، حتّى يدرك من سيحملون لواء المواجهة غداً، وأجيال الثورة القادمة بأنّ ثورتهم التي صارت سبباً لفخر وعزة ومجد المسلمين من جديد، لم تتحقّق بين عشيةٍ وضحاها.
إن ما عرضناه ليس قراءً لمصيبةٍ محزنةٍ أو مرثيّةٍ مبكية، بل هو محاولة لتفادي مصائب يحتمل تعرضنا لنا إن نحن لم نتحرك بوعي وبصيرة.
وذكر أسماء البعض من الذين وقفوا تلك المواقف – التي أشرنا لبعضها في هذه المقالة – مع الإمام لن يحلّ مشكلة، لأنّ المسألة لا تقتصر على أشخاص أو أفرادٍ بذاتهم، إنّه تيارٌ يقابل الإسلام الحقيقي الأصيل، نشأ منذ صدر الإسلام ولا زال موجوداً حتّى يومنا هذا، ينبري منه البعض بين الحين والآخر من أولئك الذين سخّروا حناجرهم لخدمة إسلام وصفه الإمام قدس سره (بالإسلام الأمريكي)، ليقفوا بوجه نهج الإمام والثورة، مستبدلين كلّ يومٍ إشكالهم وأسماءهم وشعاراتهم.
إنّ خطر الارتداد عن الجادة الصحيحة والانحراف عنها، خطرٌ يهدّد كلّ ثورة في كلّ حين، ولا يمكن مواصلة السير على نفس الجادة الصحيحة إلاّ بحفظة الوحدة، واتباع قائد الثورة، والوعي، ووحدة القلوب، والوقوف والثبات حتّى الموت على أصول الثورة ومبادئها.
وإنّني لا أُعبر بهذا الكلام عن قلقٍ ذاتي، حتى يتخذ بعض المغفلين أو المغرضين ذلك ذريعة للوقوف بوجه نهج الإسلام المستقيم الأصيل الذي هو نهج الإمام قدس سره، بل إنّ الإمام قدس سره هو الذي يحذونا قائلاً:
"لا شكّ أنّ الحوزات لا زالت تعاني لحدّ الآن من وقوعها تحت تأثير منهجي التفكير المتضادين "الإسلام الأصيل" و "الإسلام الأريكي" لذا ينبغي الحذر من احتمال تسرّب فكرة "فصل الدين عن السياسة" من طيات منهج أهل الجمود والتحجّر إلى عقول الطلبة الجدد.
إنّ في الحوزات العلمية أفراد نشطين في مواجهة الثورة والإسلام المحمدي الأصيل، فقد حمل بعض المتلبسين برداء القدسية فؤوسهم وانهالوا ضرباً في أسس الدين والثورة والنظام بكل ما في وسعهم حتّى لكأن هؤلاء لا مسؤولية لهم غير هذا الأمر.
إنّ خطر الحمقى من المتحجرين والمقدسين القشريين في الحوزات العلمية ليس بالخطر الهّين، فهؤلاء (المتحجرين) هم المروّجون للإسلام الأمريكي، وهم أعداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم".
لأجل استنتاج بعض النتائج حول معرفة مشخّصات أتباع الإسلام الأمريكي مما تقدم بشكل أفضلٍ، أعود للاستناد إلى كلام أمام مرة أخرى.
يحدّد سماحة الإمام قدس سره الملامح الجديدة لهذا التيار الضارب بجذوره في أعماق التاريخ على النحو التالي:
"على الطلبة الشبان أن يعلموا أن الملف الذي يضمّ ملامح المنهج الفكري لهذه المجموعة مفتوحٌ على الدوام! إنّ ملامح أولئك المقدسين القشريين والمتظاهرين بالدين قد تغيرت بعض الشيء، فأولئك المهزومون بالأمس أصبحوا اليوم سياسيين أقحاحاً، وأولئك الذين لم يجيزوا لأنفسهم في الماضي التدخّل في أمور السياسة اندفعوا اليوم ليكونوا ظهيراً لأولئك الساعين إلى إسقاط النظام وقلبه.
مجموعةٌ أخرى من المتلبسين بالروحانية الذين كانوا قبل الثورة يعتقدون بفصل الدين عن السياسة، وكانوا يستظلون بظل البلاط، أصبحوا فجأةً متدينين، وراحوا يُطلقون تهمة الوهابية وما هو أسوأ منها على الروحانيين الأعزاء الشرفاء الذين تحملوا كلّ ذلك العناء والتشرد والاعتقال والنفي في سبيل الإسلام.
كان المقدسون القشريون الحمقى يقولون بالأمس القريب: إنّ الدين مفصولٌ عن السياسة، وإنّ مواجهة الشاه حرام، وصاروا يقولون اليوم: لقد أصبح المسؤولون في النظام شيوعيين!!
كانوا إلى الأمس القريب يعتبرون إباحة بيع المشروبات المُسكرة والفساد والفحشاء والفسق والحكومة الظالمة كلها أموراً مفيدة وموطئةً للتعجيل بفرج إمام الزمان (أرواحنا فداه)... وصاروا اليوم يصرخون: واإسلاماه!! كلما لاحت لهم مخالفة شرعية هنا أو هناك مما يقع خلافاً لرغبة المسؤولين في البلاد.
"الحجتية" الذين كانوا بالأمس يحرّمون الجهاد والمواجهة، والذين ما ادخروا وسعاً – في أم الجهاد المحترم مع الشاه – لكسر الإضراب عن تعليق الزينة في النصف من شعبان، لينتهي المر بما ينفع الشاه، أصبحوا اليوم أكثر ثورية من رجال الثورة أنفسهم.
"أصحاب الولاية" الذين اخزوا الإسلام والمسلمين بصمتهم وتحجرهم، والذين كانت ممارساتهم العملية قاصمة لظهر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام والذين لم تكن (الولاية) بالنسبة لهم إلاّ مصدراً للارتزاق والاعتياش، يعدون أنفسهم اليوم مؤسسي ووارثي الولاية، ويتحسرون على الولاية في زمن الشاه.
حقاً، أريد أن أسأل: من أين تصدر الاتهامات بالعمالة لأمريكا وللروس، والتهم بالالتقاطية وبتحليل المحرمات وتحريم المحللات، والاتهام بقتل النساء الحوامل، وتحليل القمار والموسيقى؟ أهو من أولئك الذين لا دين لهم، أم من هؤلاء المقدسين القشريين المتحجرين الحمقى؟
وهل أنّ الصراخ بتحريم الهجوم على أعداء الله، والسخرية من ثقافة الشهادة والشهداء وإظهار المطاعين والكنايات حول مشروعية النظام، عمل العوام أم الخواص؟ ومن أيّة مجموعة كان أولئك الخواص؟ أليسوا من المحسوبين ظاهرياً على المعمّمين أم لا؟... لنترك الكلام في هذا، فالحديث فيه يطول".