أم حسن
قبلَ أن يكتب سيد الشهداء، ملحمته الخالدة، فوق رمال كربلاء كتب فوق جلمود الصخر.. ملاحم تُعْنى ببقاء الحياة، إيقاعاً متوازناً على وقع أشواقه الإمامية.. في قلبه الخافق لكلّ جمالٍ في قيمة الحق العظيم.. وإن كانت الرياح التي أسفت على جسده الشريف رمال الصحراء.. لم تستطع أن تمحو ذيْلَ حرف مما خطته يداه وجراحه فوق تلك الرمال.. هل تراها تستطيع أن تمحو حرفاً قد نقشته عميقاً أسرارُ أشواقه فوق صلابة الصخر في شموخ القيم؟
إذا، ثمّ قصصٌ.. قصيرة.. ولكنها تعملقت لمّا كتبها يراع الحسين.. وتألّقت.. لمّا لامستها أشعة الحسين.. لذلك.. لا يصاغ.. مرةً أخرى.. ما كان قد خُطّ.. بمدادٍ من محبرة الحسين.. وبريشةٍ قد برَتْها.. شفّافةً.. رقيقةً.. أشواقُ قلبٍ.. للحسين.. حُريتُها.. تحيّتُه!
روى ياقوت المستعصمي عن أنس، قال: "كنت عند الحسين عليه السلام فدخلت عليه جاريةُ، بيدها طاقة ريحانٍ، فحيّته بها، فقال: "أنتِ حرّةُ لوجه الله تعالى".. فقلت له: "جاريةٌ تُحييك بطاقة ريحانٍ، فتعتقها"؟ فقال: "كذا أدّبنا الله، قال تبارك وتعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ . وما أحسن من طاقتها… إلا تحيته… حررها. قربةً لوجه الحرية الأعظم… وجه الله.. وما تحية كالحرية… وما مُحيّيً كلّ من حيّاها.. كالحسين..!
* قوله.. قدرٌ سابق..!
ومما رووا.. أنّ الحسين عليه السلام دخل على أسامة بن زيد، وهو مريض، وهو يقول: "واغمّاه"، فسأله الحسين عليه السلام: وما غمّك يا أخي؟ قال: "ديني وهو ستون ألف درهم". فقال الحسين: "هو علي" قال: "إني أخشى أن أموت". فأجابه: "لن تموت حتى أقضيها عنك". وكان.. كما قال الحسين، وما كل قائلٍ كالحسين…!
* عطاؤه في قيمة العرفان:
وروى ابن قتيبة أن رجلاً جاء الحسن عليه السلام وطلب عطاءً، فأعطاه مئة دينار، ولمّا جاء الحسين عليه السلام أعطاه أيضاً مثلها، وأنقصها ديناراً رافضاً أن يساوي أخاه في العطاء… عِرفاناً منه لقدر الإمام في شخص الحسن.. وقدْرِ الحسن في قيمة العطاء، وما كلّ عارفٍ للحسن.. كالحسين….!
* أخذُه… تواضع… عطاؤه شموخ …!
مرّ الحسين بمساكين يأكلون في الصفة، فقالوا: الغداء، فنزل وقال: "إنّ الله لا يحبّ المتكبرين". فتغدّى، ثمّ قال: "قد أجبتكم فأجيبوني". قالوا: نعم… فمضى بهم إلى منزله، وقال لخادمة: "أخرجي كلّ ما كنت تدّخرين". كذا أخذ الحسين وكذا أعطى وما كلّ من أخذ تواضع كالحسين وما كلّ من أعطى.. أعطى عطاء الحسين..!
* قلبه.. مرآةٌ… لمرايا:
كان اسمها.. أُريْنبْ.. وكانت لعبد الله بن سلام.. زوجة.. ولابنه خالد.. أماً.. ولمّا بصُرَ بها.. يزيد.. صارت مطلقةً لعبد هواه بن مخدوع وانطوت على خالد.. أماً ولكن بقلبٍ جريح.. ولمّا.. بَصُرَ بها.. وعيُ الحسين.. صارت مُحْصَنته وشغاف قلبٍ.. يبحث عن البلسم.. فيستريح.. بيد أنهما اجتمعا.. تحت أبصار الحسين.. وأمام أشواق قلبه.. لبيت يلتئم على يديه صدعُه فعادا مرةً أخرى.. أرينب وعبد الله.. وعاد خالد.. إلى جناحي والديه.. ينعم بالدفء والفيء.. وقد عكس قلب الحسين.. سعادة القلوب الثلاثة.. وما كلّ قلب.. كقلب الحسين..
ظنّ "الصغير" (1) أنّ القوة هي كل شيء، وفوق كلّ شيء، وظنّ "الكبير" (2) أنّ الحيلة هي كلّ شيء وفوقه ولكن حين وقع الحق في شخص الإنسان الكامل، خسر معاوية وخسئ يزيد.. وبقيت أُرينب واسطة العقد في أسرة "هانئة" وبقي يزيد، عنكبوت الزوايا الصغيرة في كتاب الحياة الكبير.. وبقي الحسين.. حقاً كاملاً في الإنسان الكامل.. وهل اكتملت الحقائق.. إلاّ في رجالٍ كالحسين…! وكان اسمه بُديح.. وكان اسمها هوى… وكان كلاهما للآخر.. النسمة الأولى.. لهوى الطفولة.. وباعدت ما بينهما.. الدروب الطويلة.. وصار.. لعبد الله بن جعفر.. مولى.. وصارت لمعاوية.. غنيمةً فأرادها.. شركاً يقتنص الحسين.. وجمعتهما.. طريق مكة.. ليفترقا عنده.. وما كان ظنّهما أبداً.. أنهما سيلتقيان تحت أنظاره.. لقد لمس الحسين ذلك المجهول الذي يجتاح بُدّيحاً وهو يقدم له.. "هواه".. فما كان من الحسين.. إلاّ.. أن صيّرهما كلاّ للآخر.. برعايته سكناً.. وصارا معاً. أُسْرةً.. أسيرةً.. لهوى الملامح النبيلة.. في قسمات وجه الحسين.. وفي فيض الروح المشرقة بالجوى.. من أشواق الحسين.. وما روحٌ.. كروحك يا أبا عبد الله.. وما أشواقٌ.. كشوقك.. أيها الخافق بين أضلاع الحسين..
(1) الصغير: يزيد.
(2) الكبير: معاوية/ ما بين قوسين للعلايلي.