أذكار | أذكار لطلب الرزق مع الإمام الخامنئي | سيّدة قمّ المقدّسة نور روح الله | الجهاد مذهب التشيّع‏* كيـف تولّى المهديّ عجل الله تعالى فرجه الإمامة صغيراً؟* أخلاقنا | الصلاة: ميعاد الذاكرين* مفاتيح الحياة | التسوّل طوق المذلَّة* الإمام الصادق عليه السلام يُبطل كيد الملحدين تسابيح جراح | بجراحي واسيتُ الأكبر عليه السلام  تربية | أطفال الحرب: صدمات وعلاج اعرف عدوك | ظاهرة الانتحار في الجيش الأميركيّ

ريحانة من القرآن: حنّة أم "مريم" ... العابدة انتظاراً ... ووفاءً

ولاء...

 



بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ  [آل عمران/35] صدق الله العلي العظيم.

دخلت زوجة عمران التاريخ، عبر حوار رصده كتاب الله بين سيد المرسلين ووفد نصارى نجران الذي من ذكره معنا في المقال السابق، وقد بدأه بالحديث عن سيدة أطلت عليهم وعلينا من نافذة مضاءة ببهاء الاصطفاء الإلهي لآلها، وقد تدلت على زواياها، وورد أمل ورياحين رجاءً بفرح منتظر موعود تحقّق بعد انتظار وكذا القرآن فقد احتلّت منه موقعين كبيرين، موقعاً يجمعها بحلم فسّرته مشيئة الله بعد حين وموقعاً يصطفيها مع آلها بظلال نبوةٍ حقّ لها أن تتحدّث بكلمة الله. إنّها حنّة بنت قوقاذ الذي أنجب بنتاً أخرى تدعى "أليشاع" وقد زوّجها والدها من زكريا بن برضيا الذي سيكون له شأن هام مع حنّة وما في بطنها، ومع نبوةٍ رائعة لمعجزةٍ تخصّه وحده.

أمّا حنّة، فقد زوّجها والدها من "عمران" الرجل الصالح العابد الذي اصطفاه الله مع باقةٍ عطرة من أنبيائه وذلك في الآية الثالثة والثلاثين من السورة التي حملت اسمه تخليداً لتقواه وتقديراً لصلاحه وهي سورة آل عمران التي تعلن  ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ. ولم يقف الأمر عند ذلك الحد، بل تعدّاه إلى إعلان الباري كيفية هذا الاصطفاء في معرض الثناء في الآية الرابعة والثلاثين من السورة نفسها حين يقول جلّ من قائل: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .

تقدّمت السنون بحنّة وزوجها عمران وهما يعيشان على أمل لم ينقطع ولو للحظة، وهو أن تهب على حياتهما الجافة نسائم طفولةٍ فرحةٍ تسلي أيامهما الكئيبة، تقول الروايات أنّ حنّة نذرت لله، إن رَزَقها ولداً أن تهبه إيّاه خادماً له في بيت المقدس وسياق الآية القرآنية يعلن أنّها أعلنت نذرها وهي حامل بدليل قوله تعالى بلسانها:﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . ومهما يكن واقع الحال، فإنّ أشواق الأمومة والإلحاح الروحاني بالدعاء والصبر على ما قضاه الله من تأخير في مسألة الإنجاب دفعا هذه السيدة لعقد نذرٍ صعبٍ، وهو هِبةُ ولدها خالصاً، مخْلَصاً، مُخْلِصاً لخالقه، وهي تثق بأنّه لا مستحيل على نفوس تذوقت أحلى السّقام في اضطرام العشق الإلهي، ولكن تشاء إرادة الله أن يغادر زوجها الصالح – الذي رافقها مسيرة الانتظار الطويلة – الحياة، دون أن تعانق عينها ابتسامات وليده، الذي طال انتظاره له.
وها هي حنة تقف وحيدة مع حملها الذي راح يتقدم بخطى سريعة إلى موعده مع ضياء الولادة، إلى أن حان أوان الوضع. وجاء المنتظر أنثى تلبيةً لإرادة الله.. النافذة في كلّ شيء حيث سيكون لهذه الأنثى شأنٌ مع العناية الإلهية وألطافها الخفية.

اختصرت حنّة أشواقها، بعد أن اختزنتها زمناً، فقدّمت لخالقها اعتذارها، وجاء اعتذاراً لم يسبقه آخر في لطفه وطرافته وقد رصده لنا الباري بكثير من الإيحاء المركز، والدهشة الملهوفة التي خالجت قلب حنّة حينها، وذلك في الآية الخامسة والثلاثين من السورة نفسها:  ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ .
وبعد أن حملتها على ذراعيها وضمتها برفق إلى قلبها، لتزودها بنبضاته الواجفة، راحت تحثّ خطاها إلى المعبد، لتفي نذراً لم يكن مألوفاً في عصرها، إذ كانت هذه المهمّة حكراً على الذكور دون الإناث من خلق الله وربما كان عزمها وثباتها على إسداء خالص الشكر لخالقها وواهبها أغلى أمانيها عنواناً وحيداً لتسميتها إيّاها بـ"مريم" هذا الاسم الذي يعني بلغة قومها "خادم الرب" وعقِدها هذا النذر الذي رافق اختلاجات نبضات الحياة الأولى في قلب طفلتها جنيناً.
تسابق رجال المعبد على رعاية "مريم" إكراماً لأبيها الصالح. وكان تحلّقهم حولها وتزاحمهم عليها، لا لرفضها في عداد سدنة الهيكل بل ليستأثر كلّ واحدٍ منهم بخدمتها دون سواه وذلك لموقع أبيها الراحل بينهم ولِما توسموه فيها من خيرٍ. وجاءت القرعة لِتفرط عقد التزاحم هذا ولتغادر الطفلة الوليدة دائرة الحصار المتعاطف إلى يدي زكريّا زوج خالتها وذلك بعد أن غرقت أقلام الجميع ما خلا قلمه. ففاز دونهم برعايتها بإرادة الله الذي كفّلها له.

ولم تتّخذ حنة طريق العودة إلى منزلها إلاّ بعد أن قالت كلمتها الأخيرة التي أسدلت بعدها السورة القرآنية الكريمة الستار عليها. لتقف مريم وحدها على مسرحها بقدمين صغيرتين لكنّهما أوصلتاها إلى شؤون أرادها الله لها، تركت حنّة ابنتها في رعايته سبحانه، وعادت من حيث أتت وهي تعلن أسمى شعورٍ يخالج قل عارفٍ بالله. عابد له.
وكانت كلمة العهد الأخيرة: ﴿وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ . هنا توقف الرصد الإلهي لحركات سيدةٍ فاضلة فازت باصطفهائها مثلاً فذاً للرجاء الحي في قلوب المؤمنين من عباده. إلى هنا وقف النص القرآني مع حياة امرأةٍ مارست عبادته لله شوقاً وانتظاراً وترقباً ما هان لحظةً وما ضعف ومضت إلى خالقها دون أن نعلم نحن عبر كتاب الله مصير علاقتها بابنها بعد أن وضعتها في الهيكل وربما دون أن تدري هي أن أثيرتها الحبيبة قد جعلت منها بإرادة الله ... جدّة لروح الله ... ورسوله عيسى.

ترى كيف كان شعور حنّة سيتجلّى لو عرفت أنّ مريم التي أرادتها هي اختصار لهفة وخلاصة شوق إلى عشق الله كان لها في كتاب الله العزيز شأن وفي سِفْر الحياة أيضاً؟؟ أي نذر كانت ستعقد شكراً على هذه النعمة الممتلئة كرماً وسخاء؟! تساؤلات نستوحيها ونحن نستجلي ملامح سيدة قامت روحانيتها على ركائز العبادة شجاعة في الانتظار وشجاعة في النذر وصدق في الوفاء.
ثمّة إشارة طفيفة في الروايات تقول إن زوجها عمران مضى قبل أن يستقبل قبل الممتلئ صلاحاً نسائم أبوّته لمريم وقبل أن ينعم بمرآها مع حفيده آيةً للعالمين، أتُراها رفيقة أشواقه امتازت عنه فقط بنبض القلب السعيد حين ولادة مريم؟ كي تقاسمه في جنان الله أعظم الأجر ما قاسمته في جنان كتاب الله أطيب الذّكر؟
أخوتي القراء، عبرَ آياتٍ أربعةٍ أو خمسةٍ فقط تحركت حنة أم مريم زوجة عمران، نذرت ووفت وشكرت. ثمّ عادت من حيث أتت. ومع ذلك اتسعت هذه الآيات القصار لحركة نسائية مميزة وفاعلة في تاريخ الإنسان كما وردت في سياق القرآن.

أم مريم نموذج رائع يختصر كلّ أشواق الأمومة في مشاعر النساء عبر التاريخ.وهي تستمد هذه الروعة النموذجية من إيمانها الفطري الأصيل الذي مدّ على دربها إلى الهيكل وعلى طريقها إلى الله أسلاك عبادة روحية غاب عنها الشوك ونبتت على ضفافها ورود الدعاء ورياحين الوفاء. لذلك مجّد الخالق في هذه الإنسانية فضائل أضمرتها هذه الآيات الكريمة، مجّد فيها سبحانه:
- صفاء النفس وخلوصها له... والثقة به ... والوفاء بالوعد المنذور وإن استحال بنظر معاصريه... ولذلك كله اصطفاها الله مع عمران زوجة وشريكة في الحياة وفي كتاب الحياة... وأماً لابنته وجدةً لحفيده الذي ملأ الكون حباً وهو يشهر سيف السّلام المشرّف لكرامة الإنسان لا غصن الذلّ الملتوي تحت ندى طغاة السلام.

- وأخيراً أرادنا الله في شخص أم مريم، ذلك الوعي الفطري بالتفويض المطلق لرب العالمين. ذلك الوعي الرافض لكلّ حبائل الشيطان والمتمسّك بقوة بحبال الله. وذلك عندما تقول حنّة كلمتها الأخيرة على مسرح السورة التي خلّدتها مع زوجها الفاضل:﴿وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
في الختام نستشعر صعوبة في مغادرة روضة حنّة أم مريم ولكنها صعوبة لا بدّ منها، ونحن إذ نفعل ذلك نترنم بفطرتها الطيبة وإيمانها الصادق، ونسأل الله سبحانه أن يهبنا من روحانيتها القوية في الصبر أمام استحقاق الحرمان من أغلى أمانينا وأحلامنا قطرةً لا تقاسُ إلى المحيط الذي فجّرته أم مريم على شاطئ الحياة، ولكنها تطفئ فينا ذلك الشعور اللجوج المتسرّع الفاقد لنعمة الصبر ولتتحوّل زيتاً يشعل ضياء الانتظار العبادي حيث تصير فيه نفوسنا ذَوْبَ دعاء وعصارة رجاء ونفحة حب وسناء تحت سمع الله وحْدَه، كما أمّ مريم وكما السّلامُ من الله على أمّ مريم.


 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع