ولاء حمود
-غداً يومٌ حافلٌ وبهذه العبارة الموجزة بدأ أبي مع أمي حوار ما بعد نشرة الأخبار.
أخذت أمي مكانها قربه ... وهي تضع صينية الشاي على الطاولة القريبة منهما وأجابت:
-وبما سيحفل يوم غدٍ؟...
أجابها والدي بلهجة أثارت فضولي..
-غداً ستتمّ مبادلة الأسرى المعتقلين في السجون الإسرائيلية بجثتين لجنديين صهيونيين.
كانت لهجة أبي كئيبة رغم أنّه قد زفّ لأمي بشرى سارة.. بشرى تجعلها تكف عن سفح دموعها ... كلما تذكرت الأسرى والمعتقلين البعيدين عن عائلاتهم وأُسرِهمْ... أجابته وقد حمل صوتها انفعالها...
-وغداً سيعود شهداؤنا أيضاً من الاعتقال.. غداً تلتقي أم الشهيدين... بأول شهدائها... غداً تلتقي أم عماد ... بعماد ... يا إلهي... غداً يفيض الدمع.
-أراكِ سمعتِ الأخبار ...كافةً ...
- إنّي أنتظر يوم غدٍ بفارغ الصبر.. ليتني أستطيع أن أكون في استقبال الأسرى العائدين... أودّ أن أشارك تلميذتي ميرفت فرحة استقبالها لأبيها... قفزت من مكاني برشاقة هرةٍ... وصحت بأمّي:
-سأذهب مع عمتي لاستقبال الشهداء ... وسأشارك في تشييعهم..
- يا لكِ من مخادعة.. أما زلتِ تسهرين؟ ظننتك قد نمتِ...
- كيف أنام يا أمي؟ وقلقي يشبه انفعالك، أؤكد لك يا أبي أنّ أمي لن تغفو هذه الليلة... وستمضي الليل ساهرة.. تحيك من ظلامه نسيج قصيدة أو قصة.. هي أمي وأنا أعرفها...
مسحت أمي رأسي بحب وقدّمت لي كوب شاي وكان ذلك يعني لي إمكانية بقائي معها وبعد نوم أغلى مزعجين في العالم – أخوي الصغيرين – فهمست أمنيتي بخجلٍ خوفاً من اعتراض أبي...
-ليتني كنت ابنة أسيرٍ خارج من المعتقل غداً...؟
سمعتني أمي... وابتسم أبي... وراحت نظراته تبتعد عني.. فـأمسكت يده معابثةً...
-أبي.. قل لي، لو اعتقلتك إسرائيل الآن... أكنت ستتعذّب كثيراً لبعدكَ عنّا..؟ أم كنت سترتاح من ضجيجنا كما تردّد دائماً؟
- لقد اعتقلتني سابقاً.. منذ أكثر من عشر سنوات.. قبل أن تولدي.. وقد تعذّبت كما سواي.. ولا أدري .. إن كنت سأتعذّب.. شوقاً إلى ضجيجك مع أخويكِ.. ولكنني على أي حال تعذبت.. وتعذبت جداً...
- إنّ تجربة السجن رهيبة.. إنّ أقدرنا إحساساً بمشاعر المحرّرين غداً.. هو أنت يا حاج. وأخالك أقدرنا على التعبير عنها...
وافق أبي على كلام أمي... ليغرق في صمته من جديد... كان تأملي لملامحه في صمته محبباً لي كثيراً... ولكنه الآن متحدثاً أحب إلي ويجب أن أنجح في استدراجه ولكن ليس قبل الحصول على موافقة منه للمشاركة في يوم غدٍ.
-ألا تحتفظ في ذاكرتك بموقف مميز حول تجربة الاعتقال التي عشتها قبل أكثر من عشر سنوات؟؟
حرمتني أمي بسؤالها فرصة الحصول على إذن المشاركة في أحداث يوم الغد...
ولكنّها قدّمت لي فرصةً ذهبيةً، لا أخالها تتكرّر.. لألتزم الصمت أفضل... لأنّ أبي سيخرج عن صمته... وسيسمعني هذه المرّة.. ما يصلح رواية مميزة بين رفاقي.. أنا ابنة أسيرٍ سابقٍ... محرّرٍ قديمٍ... قبل أن أُولد.. أعرف أن ميرفت... تلميذة أمي التي نالت تعاطفها كاملاً... كونها ابنة معتقل تشاركني ألم الانتماء.. ولكنّني أعترف أنّني لا أستطيع مشاركتها ألم الانتماء الواقعي لأسير.. لأنّ أبي لم يفارقني... لا أذكر في حياتي يوماً خلا من وجه أبي وحبّه.. هنأكِ الله يا ميرفت بوجه أبيك العائد إليكِ... بعد طول اعتقال.. أما أنا فلأسمع لوالدي الآن .. فهو نادراً.. ما يقول:
-إنّ الناس تهتمّ كثيراً بتفاصيل الاعتقال.. بمرارات التعذيب بعذابات الكهرباء.. صدّقيني يا أم حوراء.. ثمّة عذاباتٌ أخرى لا تقلّ أهمية عن هذه العذابات مجتمعةً.
-لقد أثرت فضولي يا حاج...طبيعي جداً أن نسأل معتقلاً محرراً عن المعاملة التي صادفته في السجن.. وعن تفاصيل العذاب اليومي.. الذي يعانيه..
-هذا كلّه ليس بذي بالٍ إذا ما قيس بتجربة أُخرى.. يواجه فيها المعتقل شعوره منفرداً بالحياة.. بقيمتها.. بعيداً عن الاستهلاك الإعلامي..
-لا أعتقد أنّ هناك أهمية لأيّ شعورٍ آخر سوى شعور إنسانٍ يعيش تحت رحمة آخر.. بل تحت لؤمه.. ووحشيته...
-بل يوجد، شعورُ آخر وأهمية أخرى أيضاً... ماذا تقولين في رجلٍ تحرّر... ليقع من جديد.. أسير شعوره بأنّه حرٌ لم يتحرّر؟ هل تعلمين.. أنّني عندما التقيت.. أمّي ... أهلي كافةً... مباشرةً بعد خروجي من المعتقل.. لم أبكِ.. فرحتُ كثيراً.. هذا صحيح.. وأغرقني الأحبة من معارف وأهل بكلّ ألوان الدفء والتعاطف... ولكنّني مع مرور الزمن.. بدأت أحس أنّ الحرية عبءٌ ثقيلٌ.. لا تستغربي.. حتى أنا لم أفهم سر شعوري الوليد هذا. إلاّ بعد أن قادتني قدماي.. بعد أسبوعٍ من تحرّري ... إلى مكانٍ كنت أتوقع أن يكون أي مكانٍ سوى هذا .. كانت الشمس حارةً.. حارقةً... كانت الأرض تشتعل بشواظٍ من لظىً مخفي.. لا يعلن عنه سوى صوت تحطم العشب اليابس تحت قدمي وأنا في غمرة انهماكي في توزيع كمية الطحين التي أوكلها إلي قريبي... في إحدى قرى الشريط... هل تعلمين.. كنت مأخوذاً بأداء مهمتي.. كان اعتقالي أسبوعاً وسط المجاملات.. والتعريفات السجانية للحرية ولرسم صورةٍ بعيدة كلّ البعد عن حقيقة ما عايشت في الجسن.. مرهقاً للغاية.. كنت مستغرقاً لدرجة لم أسأل حتّى عن اسم القرية التي تقع تحت دائرة عملي.. تركت لقريبي مهمة التنقل وتحديد أماكن العمل.. كنت أعمل كالآلة وكانت مشاعري كأنّها في ثلاجة...
كل هذا الشعور أهم ما اكتسبته من أيام الاعتقال ولياليه الطويلة.. كنت أشعر أنّ قلبي يرزح تحت ضغطٍ ثقيل.. لا أدري مصدره – كل ما أعرفه أنّني أحتاج للبقاء وحيداً... وهذا ما فعلت.. أنهيت توزيع الطحين .. وابتعدت عن الزملاء قليلاً.. ورحتُ أمشي.. مشيت كثيراً... حتى وصلت أمام سفح جبل وهناك وقفت.. ورحت أتأمل المكان.. المهيب من حولي.. تأملت الصمت الذي يلف حتّى الهواء.. أحسست بتعبي يدفعني للبحث عن ظلّ شجرة ظليل.. لم يطل بحثي.. وجدتها بعيدة بعض الشيء عن أقدام الجبل .. كانت فوق ربوةٍ.. تساءلت أين أنا.. لم أعبأ بإيجاد جواب.. لأن النعاس قد غلبني.. وغفوت.. وتركت للنسائم اللطيفة مهمة إراحة أعصابي المتعبة منذ أكثر من سنة.. من شهر.. من أسبوع.. هل كان إغفائي المفاجئ إجابة أولى لسؤالي عن قيمة الحرية .. لا حتماً.. لأن استيقاظي المفاجئ صفعني بعد أن تجاوب سمعي مع صراخً آتٍ من أعلى الجبل.. أعادني إلى واقعي المر.. المرير... ونهضت.. وأنا ما زلت أرغب بالمزيد من النوم.. نهضت مرغماً.. مشدوداً لجهة الصوت الحاد الذي أيقظني... ومشيت صعوداً باتجاه الجبل.. من جهته الخلفية.. طالعتني الأسلاك الشائكة التي تحيط بأعلى القمة.. واستطعت أن أتبين.. خياماً منصوبة.. خيامٌ .. خيامٌ .. تملأ أعلى الجبل.. وأصوات مختلفة تصل إليّ..
تطوع النسيم بحملها كما هي.. جادة .. متشنجة.. مكتومة.. ذُهِلْتُ ولم أستفق من ذهولي.. إلاً على صوت أحدهم.. يصرخ بشتيمة مذقعة فعرفت أنّه صوت سجّان لئيم.. عرفت أنّ الصراخ المتوجع كان لأحدهم، واحد من رفاق الأمس.. ولكن لم أعرف حتّى الآن من هو .. ولا من يكون صاحب الأنين المكتوم.. وقفت حيث أنا .. لم أجرؤ على الاقتراب خطوةً واحدةً.. وأين أنا.. سؤال لم يعد يعنيني.. لأنّني عرفت حدساً.. أين موقعي.. ما لم أعرفه ... هو.. هل استطاع النسيم الذي حمل إليّ أصداء عذابهم الذي كنت أقاسمهم إيّاه قبل أسبوع أن يحمل إليهم... خفقات قلبي الذي نبض بشدّة؟..
هل استطاع أن يحمل إليهم قطرةً من الدمع الحقيقي الذي انفجر من عيني.. للمرّة الأولى منذ أكثر من سنة، إنّ سياطهم المجرمة لم تستطع أن تفجر من عيني دمعة واحدة وهي تنهال على جسدي... كنت أتحداهم بصمتي.. وبقدرتي على كتم مشاعري.. وكان هذا الأمر يثيرهم بجنون.. وكنت أجد لذّةً غامرة في إثارة جنونهم، كنت عاجزاً عن الدفاع عن نفسي فلا أملّ من أن أتسلّى بلعبة إثارتهم بامتناعي عن البكاء.. ولكن سياطهم التي سمعتها عن بعد أمتار .. خارج الخيام.. فجرت دمعي وهي تنهال على جسد سواي.. بكيت.. كما لم أبكِ من قبل... وولد عندي سؤال جديد.. يحزّ في نفسي كلما استدرجتني الأيام لفرح ما.. ماذا تراهم يفعلون الآن؟!... رفاق السجن... وأخوة العذاب والسوط.. ولؤم الجلاّد.. كيف.. تثابرون.. على الصبر.. والتحدي.. ووجدتني أفكر. بالشعر لأول مرة منذ تحرّري..
وانطلق لساني يردّد بحسرةٍ مطلع من محفوظات الذاكرة...
بالأمس كنّا... آه من كنا ومن أمسٍ يكون...
وعندها هدأت ثورتي الباكية... عدت إلى قريتي... وقد تحرّرت حقاً من شعورٍ ضاغطٍ.. ولكنّني أيقنت أنني الآن أكثر اعتقالاً من ذي قبل طالم أن الخيام في أعلى الجبل.. تعتقل أخوة لي، وأيقنت أنني لن أشعر بالحرية.. وبطعمها الذي يتحدثون كثيراً عن نكهته.. إلا عندما يقتلع آخر وتد.. من أوتاد الخيام.. خلف الأسلاك الشائكة المكهربة فوق الجبل، وعندما تقودني خطاي إلى أعلاه دون تردّد.. حينها سيكون الجبل قد تحرّر ونحن فوقه سنكون أحراراً، إلى هنا وصمت أبي.. ولكنّني لم أصمت... قفزت إليه.. وخبأت فوق كتفه انفعالي.. ودمعي.. إذاً.. أنا كميرفت.. ابنة أسيرٍ سابق وربما اختلفت عنها بشعور والدي.. الذي سرت عدواه إليّ.. أنّنا ما زلنا معتقلون جميعاً.. طالما طال زمن انتشار الخيام.. في رأس الجبل... غداً سأروي لرفيقاتي حكايتها.. حكاية الخيام التي لم تنجح في إبكاء والدي وهو في داخلها.. ولكنّها فجّرت دمعه أنهاراً وهو يراها من بعيد.. في أسفل الجبل.. ولربّما فكّرتُ وفكّرت معي رفيقاتي.. كيف نقتلع الخيام..؟