أيُّها الإنسان الضعيف المسكين. في اليوم الذي كنت فيه مكتوماً في العدم ومخفياً في غيابة جبّه، فلا أثر منك ولا من آبائك من قبل أن يخلق الكرم: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ (الإنسان: 1) فأي قدرة كاملة، ورحمة واسعة أنجتك من تلك الظلمة غير المتناهية؟ وأي يد قادرة أعطتك خلعة الوجود، ونعمة الكمال والجمال؟ ذاك اليوم الذي أتوا فيه بك بعد طي المراحل والمراتب إلى أصلاب الآباء، وكنت ذرات وسخة وقذرة. أي يد قادرة هدتك إلى رحم الأم..؟ بأي خدمة وعبادة صرت جديراً بالصورة الإنسانية؟ وبأي جد وطلب منك رُبِّيت في عالم الرحم..؟ ولكمال النعمة جعل أمك تربيك في حضنها بعد آلام الولادة والمشقات والمتاعب. فهذه الرحيمية والرّحمانية ممن؟ ومن الذي بدّل الدم الوسخ قبل أن تأتي إلى هذا العالم إلى لبن لطيف لذيذ بحيث صار أنسب الأطعمة لمعدتك الضعيفة؟ فبأي جد وسعي من المخلوق هيِّئ كل هذا؟
أيُّها العزيز: بأي جدارة وجد وسعي صرت أهلاً لإنزال الوحي الإلهي، أعظم رحمة إلهيَّة، وأعلى نعمة ربانية نعمة الهداية إلى الصراط المستقيم، والهداية إلى طرق السعادة؟ وبأي سابق خدمة صرنا جديرين بوجود الأنبياء العظام والرسل الكرام؟ وأيٌّ من هذه النعم الإلهية الظاهرية والباطنية التي تخرج عن حد الإحصاء والعد، كان عبد من العباد، أو مخلوق من المخلوقات دخيلاً فيها وشريكاً؟ أيُّها الإنسان المحجوب الغارق في نعم اللَّه المستغرق في الرّحمة الرحمانية، والرحيمية، وفقدت ولي نعمتك، فالآن وقد بلغت حد الرشد والتمييز تتشبث بكل عشب، وتعتمد على كل أساس ضعيف. اليوم لا بد لك أن تفكر في النّعم، والرَّحمات الإلهية، وتقطع يد طلبك عن المخلوق الضعيف، وتنظر إلى ألطاف الحق تعالى العامة والخاصّة، وتقطع قدم السعي عن غير بابه تعالى، فما لك غفلت عن ولي نعمتك، واعتمدت على نفسك وعملك، وعلى المخلوقين وعملهم، وارتكبت هذا الشرك الخفي أو الجلي!؟ هل وجدت في مملكة الحق تعالى متصرفاً غير ذاته المقدسة؟ أو قاضياً للحاجات غيره؟ أو وجدت يد رحمته تعالى قصيرة ومغلولة؟ ورأيت نطاقها قاصراً عنك؟ أتظنه غافلاً عنك وعن حاجتك؟ أو ترى قدرته وسلطته محدودة؟ أو تنسبه إلى البخل والغل والشح؟
أيها الإنسان الميت القلب، ويا أيها المبتلى بالأهواء النفسية، والمتعلق بالماء والطّين. إلى متى وإلى أين أنت أعمى الباطن والقلب؟ إلى متى أنت غافل عن ولي نعمتك، ومحجوب عن معرفة جماله وجلاله؟ وإلى متى تُبتلى بمصائد إبليس وتسويلات النفس؟ استيقظ من النّوم الثّقيل، ودع الرؤية المزدوجة، وأوصل نور التّوحيد إلى قلبك، واقرأ حقيقة "لا حول ولا قوة إلا باللَّه" على باطن الروح، واقطع يد شياطين الجن والإنس عن التصرُّف في مملكة الحق تعالى وأغمض عين الطمع عن المخلوق الضّعيف المسكين: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: 73 - 74).
يا رب إن القوة والعزة مختصّتان بك، والقدرة والسلطة منحصرتان بذاتك المقدسة، نحن المساكين الضعفاء، من كثرة التعلُّق بالدُّنيا متحيّرون، وعن نور الفطرة محجوبون ومحجورون، ونسينا فِطَرنا، وذلك المخلوق الضعيف المسكين الذي إن يسلبه الذباب شيئاً لم يقدر على استرداده، تعلّقت قلوبنا به، واعتمدنا عليه وابتعدنا عن ساحة قدسك، وعن التوكل على ذاتك المقدسة. إلهنا اجعل قلوبنا المشتتة مجتمعة في مكان واحد. وهذه العين المنحرفة مستقيمة النظر، واجعل التّوحيد والتفريد والتجريد متجلية في قلوبنا، واجعل جبل أنانيتنا وإنيتنا مندكاً وفانياً، وأوصلنا إلى حد الفناء حتى نفرغ من رؤية التوكل أيضاً "إنك الولي المفضال".