فيصل الأشمر
تعدّ قصيدة "الكواكب الدرية في مدح خير البرية" أو "البردة" وهو اسمها المعروف والمشهور من أفضل وأجود ما قيل في مديح الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله إن لم نقل إنها الأفضل والأجود. وصاحب هذه القصيدة هو شرف الدين محمد بن سعيد بن حماد البوصيري المولود سنة 608 للهجرة (1212 للميلاد) في قرية بهشيم المصرية، والمتوفى في الإسكندرية سنة 696 للهجرة (1296 للميلاد). كان البوصيري شاعراً كبيراً وقديراً، ولكن ما جعله على ألسنة الناس هي قصائده في مديح الرسول صلى الله عليه وآله، وتبلغ أربع عشرة قصيدة. أما أشهر هذه القصائد فهي "نهج البردة".
ويحدثنا البوصيري عن قصة نظمه لهذه القصيدة فيقول كما في كتاب "فوات الوفيات" : "كنت نظمت قصائد في مدح رسول الله صلى الله عليه وآله منها ما اقترحه عليّ الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير، ثم صادف بعد ذلك أن أصابني خلط فالج أبطل نصفي، ففكرت في نظم قصيدتي هذه البردة، فنظمتها، واستشفعت به إلى الله في أن يعافيني، وكررت إنشادها، وبكيت ودعوت، وتوسلت ونمت، فرأيت النبي صلى الله عليه وآله فمسح على وجعي بيده المباركة، وألقى عليّ بُردة (كساء أسود مربع فيه صور)، فانتبهت ووجدت فيّ نهضة، فقمت وخرجت من بيتي، ولم أكن أعلمت بذلك أحداً، فلقيني بعض الفقراء، فقال لي: أتريد أن تعطيني القصيدة التي مدحت بها الرسول صلى الله عليه وآله، فقلت: أيها؟ فقال: التي أنشدتها في مرضك، وذكر أولها، وقال: والله لقد سمعتها البارحة وهي تنشَد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله... أعجبته، وألقى على من أنشدها بردة، فأعطيته إياها.
وذكر الفقير ذلك، وشاع المنام، إلى أن اتصل بالصاحب بهاء الدين بن حنا، فبعث إليّ وأخذها، وحلف ألا يسمعها إلا قائماً حافياً مكشوف الرأس، وكان يحب سماعها هو وأهل بيته. ثم إنه بعد ذلك أصاب سعد الدين الفارقي رمد، أشرف منه على العمى، فرأى في المنام قائلاً يقول له: إذهب إلى الصاحب، وخذ البردة، واجعلها على عينيك، فتُعافى بإذن الله عز وجل. فأتى إلى الصاحب، وذكر منامه، فقال: ما أعرف عندي من أثر النبي صلى الله عليه وآله بردة، ثم فكر ساعة، وقال: لعل المراد قصيدة البردة التي للبوصيري... فأتى بها، فأخذها سعد الدين، ووضعها على عينيه، فعوفي، ومن ثم سُمّيَت البردة".
وقد بلغت هذه القصيدة من الشهرة مدى بعيداً، ولم يأتِ بعدها من المدائح ما أمكنه أن يحل محلها في مراتب المدائح النبوية. وقد تبارى الشعراء في معارضتها والنظم على منوالها دون أن تبلغ قصائدهم ما بلغته "البردة" من جودة صياغة ومتانة سبك ومن شهرة، ومن هؤلاء: الشيخ بهاء الدين العاملي، محمود سامي البارودي، وأحمد شوقي. كما أن الدكتور زكي مبارك في كتابه "المدائح النبوية" قال إن البردة كانت السبب في نشوء فن البديعيات في الأدب العربي. وقد وُضعت لها العشرات من الشروح، منها: شرح الشيخ الملا علي قاري الحنفي، شرح الشيخ جلال الدين الشافعي، وشرح الشيخ إبراهيم البيجوري. تقع القصيدة في مئة وستين بيتاً، وقد قسمها الدارسون إلى عشرة فصول، هي:
الفصل الأول: في الغزل والنسيب النبوي
الفصل الثاني: في التحذير من هوى النفس
الفصل الثالث: في مدح الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله
الفصل الرابع: في مولده صلى الله عليه وآله
الفصل الخامس: في معجزاته صلى الله عليه وآله
الفصل السادس: في شرف القرآن الكريم
الفصل السابع: في الإسراء والمعراج
الفصل الثامن: في جهاد الرسول صلى الله عليه وآله وغزواته
الفصل التاسع: في التوسل والتشفع به صلى الله عليه وآله
الفصل العاشر: في المناجاة والتضرع.
وحيث إن عرض القصيدة كاملة غير ممكن في هذه المقالة، فإننا نعرض فيما يلي بعضاً مما تتضمنه فصولها من أبيات هي التالية:
مَزَجْتَ دَمْعاً جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ |
أمِنْ تَذَكُّرِ جِيران بِذِي سَلَمِ(1) |
وأوْمَضَ البَرْقُ فِي الظلْماءِ مِنْ إضَمِ(4) |
أمْ هَبَّتْ الريحُ مِنْ تِلْقاءِ(2) كاظِمَةٍ(3) |
وَما لِقَلْبِكَ إنْ قُلْتَ اسْتَفِقْ يَهِمِ(7) |
فما لِعَيْنَيْكَ إنْ قُلْتَ اكْفُفا(5) هَمَتا(6) |
مَعْذِرَةً مِنِّي إليكَ ولو أَنْصَفْتَ لَمْ تَلُمِ |
يا لائِمِي في الهَوَى العُذْرِيِّ |
والفَرِيقَيْنِ مِنْ عُرْبٍ ومِنْ عَجَمِ |
مُحَمَّدٌ سَيِّدَ الكَوْنَيْنِ والثَّقَلَيْنِ |
فِي قَوْلِ لا مِنْهُ وَلا نَعَمِ |
نَبِيُّنَا الآمِرُ النَّاهِي فلاَ أَحَدٌ أبَرَّ |
لِكلِّ هَوْلٍ مِنَ الأهوالِ مُقْتَحِمِ |
هُوَ الحَبيبُ الذي تُرْجَى شَفَاعَتُهُ |
مُسْتَمْسِكُونَ بِحَبْلٍ غيرِ مُنْفَصِمِ(8) |
دَعا إلى اللهِ فالمُسْتَمْسِكُونَ بِهِ |
وَلَمْ يُدانُوهُ في عِلْمٍ وَلا كَرَمِ |
فاقَ النَّبِيِّينَ في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ |
مِنَ الْبَحْرِ أَوْ رَشْفاً مِنَ الدِّيَمِ(9) |
وَكلُّهُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ مُلْتَمِسٌ غَرْفاً |
ثمَّ اصْطَفَاهُ حَبيباً بارِىءُ النَّسَمِ(10) |
فهْوَ الذي تَمَّ معناهُ وصُورَتُه |
فَجَوْهَرُ الحُسْنِ فيه غيرُ مُنْقَسِمِ |
مُنَزَّهٌ عَنْ شَرِيكٍ في محاسِنِهِ |
وفَوْقَ الأَيْنُقِ(12) الرُّسُمِ(13) |
يا خيرَ منَ يَمَّمَ العافُونَ(11) ساحَتَهُ سَعْياً |
وَمَنْ هُوَ النِّعْمَةُ العُظْمَى لِمُغْتَنِمِ |
وَمَنْ هُوَ الآيَةُ الكُبْرَى لَمُعْتَبِرٍ |
كما سَرَى البَدْرُ في داجٍ مِنَ الظُّلَمِ |
سَرَيْتَ مِنْ حَرَمٍ لَيْلاً إلَى حَرَمٍ |
مِنْ قَابِ قَوْسَيْنِ لَمْ تُدْرَكْ وَلَمْ تُرَمِ |
وَبِتَّ تَرْقَى إلَى أنْ نِلْتَ مَنْزِلَةً |
والرُّسْلِ تَقْدِيمَ مَخُدُومٍ عَلَى خَدَمِ |
وَقَدَّمتْكَ جَميعُ الأنبياءِ بِها |
بهِمْ في مَوْكِبِ كُنْتَ فيهِ صاحِبَ العلَمِ |
وأَنْتَ تَخْتَرِقُ السَّبْعَ الطَّباقَ(14) |
سِواكَ عندَ حلولِ الحادِثِ العَممِ(15) |
يا أكْرَمَ الرُّسْلِ ما لي مَنْ أَلوذُ به |
إذا الكريمُ تَحَلَّى باسْمِ مُنْتَقِمِ |
وَلَنْ يَضِيقَ رَسولَ اللهِ جاهُكَ بي |
وَمِنْ عُلُومِكَ عِلمَ اللَّوْحِ والقَلَمِ |
فإنَّ مِنْ جُودِكَ الدنيا وضَرَّتَها(16) |
إنَّ الكَبَائِرَ في الغُفْرانِ كاللَّمَمِ(17) |
يا نَفْسُ لا تَقْنُطِي مِنْ زَلَّةٍ عَظُمَتْ |
عَلَى حَسَبِ العِصْيانِ في القِسَمِ |
لَعَلَّ رَحْمَةَ رَبِّي حينَ يَقْسِمُه تأْتي |
وَاجْعَلْ حِسابِي غَيْرَ مُنْخَرِمِ(18) |
يا رَبِّ وَاجْعَلْ رَجائي غَيرَ مُنْعَكِسٍ لَدَيْكَ |
إنَّ لَهُ صَبْراً مَتى تَدْعُهُ الأهوالُ يَنْهَزِمِ |
وَالْطُفْ بِعَبْدِكَ في الدَّاريْنِ |
(1) ذو سلم: موضع بين مكة والمدينة.
(2) تلقاء: ناحية.
(3) كاظمة: طريق إلى مكة.
(4) إضم: موضع قرب المدينة.
(5) اكففا: امتنعا عن الدمع.
(6) همتا: سالتا بالدمع.
(7) هام: ازداد عشقاً.
(8) منفصم: منقطع.
(9) الديم: الأمطار الدائمة.
(10) النسم: الإنسان.
(11) العافون: طالبو الفضل.
(12) الأينق: النياق.
(13) الرُسُم: الناقة الرسوم: التي تؤثر على الأرض من شدة الوطء عليها.
(14) الطباق: السموات.
(15) الحادث العمم: هول يوم القيامة.
(16) ضرتها: الآخرة لأنها ضرة الدنيا.
(17) اللمم: صغار الذنوب.
(18) منخرم: منقطع.