نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

حكايا الشهداء: أقصر الدروب.. الشهادة

محمّد لمع


لم يكن غروب ذلك اليوم الشتويّ في مليتا ليختلف عن بقيّة الأيّام؛ ضبابٌ كثيفٌ، وبردٌ شديدٌ، ورطوبةٌ خفيفةٌ تبلّل أوراق شجر السنديان، فتستحيل قطراتِ ندىً تتجمّع قبل أن تنزل حبّاتِ ماءٍ فتعانق ترابَ الأرض وما سقط من ثمر البلّوط اليانع، فتمتزج معها وتنتجُ تلك الرائحة الفريدة، ومع وريقات القصعين (العيزقان) التي يفوح ضوعها في المكان، قبل أن تعلّق ببزّات المجاهدين فتسِمها ببصمةٍ كانت تميّز أهل تلك الأرض.

•مثلّث المقاومة
منذ انسحاب العدوّ الصهيونيّ في آذار 1985م، شكّلت مليتا مع جبل صافي وبلدة اللويزة مثلّث المقاومة الأوّل، وقد آوى إليه ثلّةٌ من الأحرار، هجروا الأهل والأحبّة والعيال، واتّخذوا منه موطناً لا يسكنه إلّا من عاش في غربةٍ في بيته بعد أن دنّس العدوّ الصهيونيّ التلال الحاكمة، وأسر منطقة الشريط بأهلها. لم تكن المقاومة الإسلاميّة قد طوّرت عملها بعدُ، فالعمل الجهاديّ بدأ على شكلِ حربِ عصاباتٍ وزرع عبواتٍ أو قصف دوريّةٍ، أمّا مهاجمة المواقع واقتحامها، فكان تكتيكاً جديداً أخذ يتطوّر مع الأيّام.

استُدعي الإخوة، وجلّهم من الرعيل الأوّل في إقليم التفّاح وبعضهم من خارجه، إلى مليتا، فهبّوا يلبّون النداء دون أن يسألوا -كعادتهم- عن طبيعة المهمّة.

كان الشيخ وسام زيعور وقاسم حرب وأسماء أخرى لم يمنّ الله عليها بالشهادة بعد، نواةَ العمل العسكريّ في الإقليم ومحاوره الممتدّة من العيشيّة جنوباً حتّى أعالي جزّين شمالاً. لم يكن في مليتا مغارةٌ بعد، فجلس الجميع على الأرض، وتحلّقوا حول الشهيد السيّد عبّاس الموسويّ (رضوان الله عليه)، وبدأوا يستمعون إليه. هذا السيّد الآتي من طيب قرى بعلبك وشموخها، كان قد أسر كلّ من عرفه أو عمل معه، بأخلاقه العالية والنبيلة وتواضعه الشديد، والأهمّ من ذلك كلّه، بإخلاصه الشديد وتركه جاه الدنيا وزينتها، فصار لهم الأب والأخ والقدوة والمثال.

•التحضير للهجوم
"سنهاجم موقع السويداء الرابض فوق تلّةٍ بين الجرمق وعربصاليم، والذي يوزّع القتل والرعب على أبناء الإقليم، قاطعاً بقنصه طريق حبّوش الدرب الوحيد المؤدّي إلى قراه". شرح السيّد خطّة الهجوم وأهدافه، ثمّ اختلى بمجموعة الاقتحام، وقد حضر فيها قاسم والشيخ وسام وآخرون قبل أن ينضمّ إليهم أبو علي الحاج علي (نور) الذي وصل لتوّه من المستشفى. وفور وصوله صاح مبتسماً: "لقد وُلد عليّ منذ ساعتين، وصار بإمكاني المغادرة". الغائب الأكبر عن هذه الخلوة كان محمّد مقلّد الذي أقعده المرض وألزمه الفراش. هو الذي لم يتخلّف عن أيّ عمليّةٍ من قبلُ، ظلّ في بيته يتقلّب في سريره وعقله وروحه مع رفاق السلاح. راح السيّد عبّاس يوصي المجاهدين المهاجمين بوصاياه، بينما جلس الآخرون، كلٌّ تحت شجرته، ينظّفون السلاح ويزيلون عنه الزيت.

•مشهد سينمائيّ
مع تقدّم ساعات الليل وحلول الظلام، صدر الأمر للمجموعة بالتحرّك من مليتا باتّجاه جرجوع، ومنها إلى عربصاليم حيث الموقع المعادي. ركب الإخوة سيّارة الجمعيّة (كذا كان اسمها لأنّهم اشتروها بجمع مالهم الخاصّ) وانطلقوا نزولاً. كانت طريق عربصاليم جرجوع معرّضةً للقنص من قبَل العملاء في موقع سجد، وخطر سلوكها ليلاً حتّم على الجيش اللبنانيّ غلقها بساترٍ ترابيّ. نسي الإخوة أمر الساتر لانشغالهم بالحديث عن العمليّة والمهام، وزاد الأمرَ سوءاً إطفاء أنوار المصابيح الكهربائيّة. وما هي إلّا لحظةٌ حتّى كانت السيّارة تتسلّق الساتر الترابيّ لتهويَ من الجهة المقابلة، بمشهدٍ أين منه الأفلام البوليسيّة. تفقّد الإخوة بعضهم بعضاً، فكانوا جميعاً بخير. أدار علي فرحات المحرّك فوجده يعمل كأنّ شيئاً لم يكن. ضحك الجميع وانطلقت المجموعة تشقّ طريقها في شوارع عربصاليم قاصدةً الحارة الجنوبيَّة المهجورة حيث العدوّ الإسرائيليّ في تلّة السويداء.

•سيّارة "الجمعيّة" تنجز المهمّة
تكفّلت سيّارة "الجمعيّة" بنقل الإخوة إلى أقرب منطقةٍ من الحارة الجنوبيّة، ولهذا الأمر كانت تسلك طريقاً غير معبّدٍ بعد. بدأ الوحل يتجمّع حول العجلات مع كلّ مشوارٍ جديدٍ، وزاد المطر المتساقط الأمر سوءاً، حتّى طارت السيّارة وراحت تتدحرج بركّابها في منطقةٍ زراعيّةٍ. وباستعادةٍ لمشهدٍ هوليوديٍّ جديدٍ، قفز السائق ومن معه قبل أن تستقرّ السيّارة في جلٍّ ترابيٍّ مزروع، لكنّ الله سلّم الإخوة، فاتّصلوا عبر الجهاز ليخبروا أنّهم بخير دون السيّارة التي خرجت من مهمّتها بعد أن أكملتها.

•الدرب المضمون
انتقل السيّد عباس وبعض معاونيه إلى منزل الشهيد مصطفى حيدر ووالدته الشهيدة عزيزة مقلّد، في أعلى نقطةٍ في الحارة الفوقا في عربصاليم عند تخوم جرجوع، حيث يستطيعون مراقبة السويداء والعمليّة بوضوح. وفي الحارة التحتا، كانت مجموعة الدعم تنفصل عن مجموعة الهجوم والإطباق. راح "أبو عليّ"، يودّع المجاهدين، حتّى إذا ما وصل إلى الشيخ وسام دار بينهما حديثٌ صغيرٌ أخبره خلاله الأخير بحواره مع السيّد في مليتا، فقال له إنّه في الحوزة يُستفاد من علمه وروحيّته الجهاديّة، لكنّ السيّد ردّ عليه بالقول: "سأمضي عمراً طويلاً في التبليغ لأضمن آخرةً صالحةً، ومن يدري إذا ما كنت سأسقط في امتحان الدنيا وبلاءاتها، بينما درب الشهادة مضمونٌ وسريعٌ، سآخذ الدرب المضمون". قال كلماته ثمّ عانق صديقه وغاب في جوف الليل يتبعه قاسم حرب والحاج نور وآخرون، بينما انتقل "أبو عليّ" إلى نقطة الدعم والمؤازرة البعيدة نسبيّاً، وفتح جهازه يستمع إلى الحوار المرمّز بين المتقدّمين إلى السويداء وغرفة العمليّات، وكم كان تأثّره عظيماً بما كان يقوله الحاج نور وهو على بُعد أمتارٍ من الموقع. كان صوته يمتزج مع صوت وقع قدميه وأحياناً مع صوت زحف جسده على الأرض وصوت صفير الهواء وزفيره المتعب من ثقل الأحمال، وكان كلامه نورانيّاً ملكوتيّاً لا يصدر إلّا عن نفسٍ اطمأنّت إلى ما عند ربّها، وانعتقت من سجن الدنيا، فلا يفصلها عن الفردوس إلّا قنطرةٌ، هي قنطرةُ الشهادة.

•بهجةٌ فغصّة
تواصلت غرفة العمليّات مع المجموعة القتاليّة، وبعد التأكّد من الجهوزيّة والاقتراب من الموقع، صدر الأمر: "القهوة على النار ونحن بانتظارك". فَهِمَ الحاج نور الأمر، وبعد الإذن من السيّد عبّاس أعطى الأمر مكلّلاً بالتكبير وبالآية المباركة: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾ (التوبة: 15).. واشتعل الموقع بالنار المنصبّة من كلّ حدبٍ وصوب. لم تصمد التلّة طويلاً، وبعد دقائق كانت أقدام الحاج نور والشيخ وسام وقاسم حرب تدوس الدشم عند سواترها وداخلها.. لقد سقطت السويداء.

سادت الفرحة والبهجة كلّ مكانٍ، وبدأ الإخوة يتبادلون التبريكات، لولا أن حصل ما لم يكن في الحسبان. وبدأ صوت الرصاص يملأ الموقع، وبلحظةٍ واحدةٍ غاب الحاج نور والشيخ وسام وقاسم وطلال الصغير عن السمع، والسويداء استعادت المشهد من جديد: قصفٌ ونيرانٌ، لكن هذه المرّة من مصدرٍ جديد. كان العدوّ قد استعدّ لاحتمال الاقتحام وطوّر تكتيكاً جديداً يقضي بالنزول تحت الأرض والاستعاضة عن القتال وجهاً لوجه بالقتال من فوّهاتٍ بمستوى الأرض تحمي مطلقي النار المحصّنين.

حيرةٌ وذهولٌ أصابا مجموعات الدعم وغرفة العمليّات، قبل أن يخرج بلال جابر جريحاً من السويداء لينبئ عن الكمين الذي وقعوا فيه، ويخبر عن استشهاد رأس حربة الهجوم: الحاج نور والشيخ وسام وقاسم حرب وطلال الصغير، أمّا هو فسرعان ما لفظ أنفاسه بعدما فكّ سرّ ما حصل، ليكون خامس الشهداء.

•"هيهات لنا أن نتراجع"
بدأ الفجر يرسل خيوطه عندما جاءت المروحيّات الصهيونيّة لتمشّط الأودية، بينما راحت مدفعيّة العدوّ الصهيونيّ تقصف الأودية وطُرق الانسحاب والقرى المجاورة كلّها، فانكفأ الإخوة باتّجاه المغارات والشخاريب عند مجرى النهر أسفل عربصاليم، بعد أن يئسوا من إمكانيّة بقاء أحدٍ على قيد الحياة.

غروب تلك الليلة، نهض محمّد مقلّد من فراشه بعد أن أشعل استشهادُ رفاق دربه في جسده المنهك طاقةً هزمت المرض الذي أقعده عن المشاركة في العمليّة. جمع باقي أفراد المجموعة وبينهم علي فرحات ومحمّد عيسى (أبو عيسى)، وخطب فيهم خطبةً شحذت هِممهم ورفعت معنويّاتهم: "تلك هي طريق ذات الشوكة، وهي درب النصر المعبّد بالدم والشهادة والتضحيات. نحزن لفراق الأحبّة؟ نعم نحزن، لكن هيهات لنا أن نتراجع أو نستكين. الليلة ننتشر في محيط السويداء ونحاول استعادة الجثامين الطاهرة". وهكذا كان، على مدى ليلتين، لم يترك الإخوة صخرةً إلّا نظروا خلفها، ولا شجرةً إلّا تحسّسوا التراب تحتها علَّ أحدهم استراح عند جذعها فيقتصّوا أثره.

•البحث عن الكنز الثمين
يقول "أبو عليّ" عن تلك الأيام: "عندما كنّا نفقد الأمل في العثور على الشهداء، كان محمّد مقلّد هو الذي يعطي أمر الانسحاب، لكنّه كان يظلّ ملتفتاً إلى الخلف أثناء العودة وكأنّه فقد كنزاً ثميناً يبحث عنه. كان أمله بالعثور على رفاق دربه كبيراً وشوقه إليهم لا يُقدّر".

وفي الليلة الثانية، كان تلفزيون الشرق الأوسط الناطق باسم العملاء يعرض صور أجساد الشهداء موضوعةً فوق الآليّات وحولها العملاء يحتفلون. وعند منتصف الليل، كان موقع السويداء يتعرّض إلى أكثر من 250 طلقةً رشّاشة. كانت تلك تحية الوفاء من علي فرحات إلى رفاق دربه.

•ستبقى اليد على الزناد
مضت الأيّام، وزَرعُ الشيخ وسام وقاسم حرب صار شجراً ظليلاً.. وسارت القافلة، فاستُشهد علي فرحات في صيدون، ومحمّد مقلّد في مليتا، وأبو عيسى في سوريا.. وما زال الآلاف يتابعون المسير، يتلمّسون خطى أسلافهم، يحملون ذكرياتهم نوراً وصلابةً، يحنّون وتدمع أعينهم، لكنّ اليد على الزناد، والعينَ مفتوحةٌ على القدس.


(*) عمليّة تلّة السويداء، التي تحرّرت بتاريخ 21/12/1987م.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع