مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

قرآنيات‏: مناسبات الآيات‏: طريق ذات الشوكة


الشيخ عمَّار حمادة


يروي أصحاب التفسير(1):
أقبل أبو سفيان بِعِيرٍ(2) من الشام يحرسها أربعون راكباً من قريش. فندبَ النبي صلى الله عليه وآله أصحابه للخروج إليها، فخفَّ بعضهم وثقل بعض، ولم يظنوا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله يلقى كيداً ولا حرباً، فخرجوا يريدون الغنيمة. لما سمع أبو سفيان بمسيرهم إليه، استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة وأمره أن يستنفر قريشاً وأن يخبرهم بتعرض المسلمين لقافلتهم. فجاء ضمضم مكة صائحاً بأعلى صوته: يا آل غالب العير العير أدركوا، وما أراكم تدركون أنَّ محمداً صلى الله عليه وآله والصباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرضون لأموالكم، فلم يبقَ أحد من عظماء قريش إلا خرج بأبنائه أو أخرج مالاً لتجهيز الجيش، ونادوا بالناس "من لم يخرج نهدم داره".


أرسل النبي صلى الله عليه وآله عيناً يتابع مسير القافلة ويزوده بأخبارها، فعاد وأخبره أين فارقها، ونزل جبرائيل فأخبره عن نفير المشركين في مكة، فاستشار أصحابه في الأمر، فقام المقداد، بعد أن تكلم جمعٌ من الصحابة بكلام فيه تثبيط للهمم وتوهين للنفوس، وقال: "يا رسول الله صلى الله عليه وآله إنها قريش وخيلاؤها وقد أمنَّا بك وصدَّقنا أنَّ ما جئت به حقٌّ، والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس(3) لخضناه معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام إذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا ههنا قاعدون، ولكنَّا نقول: امضِ لأمر ربك فإنَّا معك مقاتلون". ثم قام سعد بن معاذ وقال كمقولة المقداد. فرح الرسول صلى عليه وآله بمقالتهما وقال: "سيروا على بركة الله فقد وعدني ربي إحدى الطائفتين ولن يخلف الله وعده، لكأني أنظر إلى مصرع أبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وفلان وفلان".

ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله أصحابه بالمسير إلى بدر، وهي بئر بين مكة والمدينة، ولما وصلوها كانت قريش قد أصبحت على مقربة منها وكانوا قد أرسلوا عبيدهم ليستقوا من مائها، فأسرهم المسلمون وجاؤوا بهم إلى الرسول صلى الله عليه وآله فسألهم صلى الله عليه وآله: كم القوم؟ فقالوا: لا علم لنا بعددهم. فقال صلى الله عليه وآله: كم ينحرون في كل يوم من جزور(4)؟ قالوا: من تسعة إلى عشرة فقال صلى الله عليه وآله: القوم تسعماية إلى ألف رجل فبلغ ذلك قريشاً وعلموا أنَّ النبي صلى الله عليه وآله مصمم على الحرب، فندم البعض منهم وبدأ الخوف يتسلل إلى قلوبهم بالرغم من كثرتهم وقلة المسلمين.

وكان أبو سفيان لمّا أفلت بالقافلة وجاز بها عن طريق آخر إلى مكة قد أرسل إلى قريش أن قد نجَّى الله عيركم فارجعوا ودعوا محمداً وادفعوه بالراح ما اندفع، فقام أبو جهل وقال: يريد أن يخذل بين الناس، لا واللات والعزَّى، حتى نقتحم عليهم يثرب أو نأخذهم أسارى فندخلهم مكة وتسمع العرب بذلك. وكذلك أبى بنو مخزوم العودة وصمموا على الحرب. فكانت معركة بدر وانتصر فيها المسلمون انتصاراً باهراً على مشركي مكة. فأنزل الله سبحانه وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ(5) صدق الله العلي العظيم. فقتل فيها، كما أنبأ رسول الله، أبو جهل وعتبة وشيبة وعتاة قريش وكانت العزة لله ولرسوله وللمسلمين.

تفسير الآية(6)
تخاطب الآية المسلمين، الذين قام بعضهم بمجادلة الرسول صلى الله عليه وآله في القتال بعد أن دعاهم إليه، بأنّ الله وعدكم على لسان رسوله بالعير وبالنفير أن تكون إحداهما لكم، أي إما تكون لكم القافلة بالغنائم الموجودة فيها من مسك وأقمشة، وإما تكون لكم الحرب بما فيها من عزة وعلو شأن للمسلمين على المشركين، ثم تُبيّن لهم شيئاً مما أسرّوا حين المسير حيث فضلوا أن تكون لهم الطائفة السهلة، أي الغنيمة، لئلا تلحقهم مشقة الطائفة الأخرى، أي الحرب، حيث قال المفسرون(7) إنَّ المسلمين كانوا يريدون العير ورسول الله كان يريد ذات الشوكة، وذات الشوكة هي الحرب لما فيها من الشدة والضرب. لكن الله يُبيّن أنَّه أعلم منهم بالمصلحة فأراد أن يظهر الحق بلطفه ويعز الإسلام بنصره، وهذه كلماته التي بها أمر بالقتال وبها نصر المسلمين، وبذلك تُستأصل شوكة المشركين مشركي العرب فلا تقوم لهم قائمة بعد ذلك اليوم. هذا ما تحاول الآية أن تقوله بلسانها المباشر وهو من الوضوح بمكان جلي. ما تفسيرها بما يتعلق بشأن نزولها، فإن المعنى المستفاد لا يختلف كثيراً، إنما شأن نزولها يسلط الضوء على بعدٍ تربوي سياسي مهم في شخصية الرسول صلى الله عليه وآله.

 فالقصة تصف لنا تقاعس بعض المسلمين عن المسير إلى قريش ، حيث كانت المرة الأولى التي يسيرون فيها إلى خوض معركة مصيرية، كما كان عددهم قليلاً (ثلاثمائة وبضعة عشر مقابل ألف) وعتادهم ضعيف، وكان جندهم في الأغلب ممن لا عهد له بالحرب. فلذلك كان من المبرر، من الناحية المادية للأمور، لهذا البعض أن يفضل الغنيمة السهلة (قافلة مع أربعين فارساً فقط) على المعركة الصعبة. ولكن، من الناحية الروحية والمعنوية، كان الرسول صلى الله عليه وآله يفضل الحرب ويرى أنَّ طريق ذات الشوكة هي الأجدى لأمته والأسلم لمستقبلها، لأنّه كان يتوق إلى كسر شوكة المشركين، والى أن يعيش المؤمنون بالدين الجديد معاً تجربة التضحية في سبيل الله، والى أن يثبت الإيمان في قلوبهم من خلال الإخلاص لله في حركتهم. من هنا جاءت الإشارة القرآنية إلى رغبة هؤلاء بالطريق السهل، غير طريق ذات الشوكة، وإلى الرغبة الإلهية المقابلة التي تجلت بإرادة الرسول صلى الله عليه وآله في إحقاق الحق وإظهار الدين واستئصال المشركين وفتح الطريق أمام الدعوة الإلهية.

* الإستفادة المعاصرة من الآية
نعيش اليوم مفارقة غريبة، يُعْتَمَد فيها على استغباء شعوبنا واستسهال بث الأفكار المشوهة في مخيلتها التعبة من كثرة المشاكل. فنحن هنا، في بلادنا التي عانت من الاحتلال وما زالت، نسمع الدعوات تترا من كل حدب وصوب لأن نترك المقاومة والسلاح، ولأن نعمل على توفير الفرص السياسية لتحقيق التحرير والعدالة والإستقلال، وتأتينا، مع فواتير المديونية الهائلة، الوعود بالعيش الهني‏ء وتحسين الوضع الإقتصادي، كل ذلك لنسعى إلى الهدف السهل، أو ما يصوّر لنا بأنَّه سهل، ولنترك الأهداف العظمى التي تمتلئ طريقها بالأشواك والعوائق.
 

فلندع الأمم المتحدة تحقق لنا انسحاب المحتل من أرضنا من خلال تسليم السلاح، ولندع البنك الدولي يتولى مهمة إيفاء ديوننا من خلال بيع كلِّ مقدرات دولتنا إلى القطاع الخاص والى الأجانب، ولنتوسل إحقاق حقوقنا في المحافل الدولية من خلال التسكع على أبواب مؤسساتها. في المقابل يطرق باب سمعنا نداء تلك الآية وهي تهمس في جنبات الروح بصوتها الملكوتي بأنَّ غير ذات الشوكة لن تحرر لنا أرضاً ولن تحق لنا حقاً ولن تحفظ لنا اقتصاداً ولا أمناً. فإذا أصخنا بسمع الأفئدة لتلك النغمة القدسية، فإننا سنعلم أن الأحابيل التي ينسجها الإعلام العالمي والتي تنظر لسياسة المستكبرين ليست إلا التجلي المعاصر لأحابيل الشيطان التي حاولت أن تنسج في عقول بعض المسلمين الأوائل الذين طلبوا الغنم دون الغرم. فنحن اليوم عندما نصدح باختيارنا لطريق ذات الشوكة التي ارتضتها لنا الإرادة الإلهية ليس لأننا هواة حرب، كما لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله من هواتها لأنّه رسول السلام الحقيقي إلى البشرية، بل لأن لنا حقوقاً سليبة، ولأننا في معرض الاعتداء علينا ونعلم من تجربتنا أنَّ استسهال الأهداف لم يؤدّ بأمة من الأمم إلى نيل حقوقها. كلُّ أمة اختارت طريق المقاومة والعزة تلقّت من الأعداء ما لم يستطع أن يمنعها من إكمال الطريق والوصول إلى النصر، أما تلك التي اختارت الأهداف السهلة فإنَّ أشواك أعدائها التي تلقتها بصدرها دون مقاومة أحدثت فيها جراحاً لا تندمل، ما أدى إلى ضعفها وضياع حقوقها وانتهاك حرمتها. وهاك جرح فلسطين ببابك.


(1) أبو حمزة وعلي بن إبراهيم في تفسيرهما.
(2) الجمال التي تحمل المسك وبضائع التجار.
(3) الغضا والهراس نوعا شجر قويّ العود والشوك.
(4) الجزور الإبل المذبوحة يقع على الذكر والأنثى.
(5) سورة الأنفال، الآية: 7.
(6) مجمع البيان الطبرسي، ص‏801.
(7) الحسن البصري.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع