مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

جعبة مقاوم‏: شباب المقاومة

هادي قبيسي‏

 



كانت عربصاليم مغسولة بأمطار نيسان التي جاءت متأخرة ذلك العام. وفي فترة ما بعد الظهر، كانت ثمة غيوم قادمة عبر الأفق الغربي تبدو مثقلة كامدة. ولما دنا الظلام كانت قريتنا قد غرقت في الضباب، وظلَّ المطر يتساقط بين الفينة والأخرى حتى طلوع الصباح. مضيت وبسام إلى المسجد، وطوال الطريق كنت تسمع خرير المزاريب والسواقي التي جرت إلى جانبي الطريق وتدفقت كلما زخ المطر، وكانت النوافذ المضاءة بأنوار الشموع الخافتة تكاد لا ترى من وراء الضباب، فيما سرت نسائم ربيعية باردة، حاملة عطر زهر الليمون من بضع شجرات تحيط بالمسجد.

كان المسجد خالياً، صلينا على ضوء شمعة صغيرة أنارت إحدى الزوايا، ثم اقتربنا منها ومددنا أيدينا طلباً للدف‏ء، وقرأنا بضع صفحات من القرآن تحت ضوئها. أخذت جواربي وعصرتها ثم لبستها، وكذلك فعل بسام، ثم مشينا عبر طريق ضيق يطل على نوافذ أقبية المنازل التي كانت مضاءة ودافئة وتسمع منها أصوات أدوات الطعام وبكاء الأطفال وأحاديث النسوة... مضينا ولما تزل بعض بقع الضباب متناثرة في الزواريب العتيقة، وبدأت الطريق تنحدر بنا نحو الوادي الأخضر موحلة زلقة. هل تشعر بالبرد كثيراً؟ لقد وصل إلى العظام، كما تقول جدتي. أين خبأت اللغم؟ تحت شجرة السنديان، آخر المنحدر. هل تجيد استعماله حقاً؟ نعم، لقد دلّني الحاج سهيل، عمي، على كيفية تشغيله... تضعه في حفرة صغيرة، ثم تسحب الأمان فيصبح جاهزاً، فتدفنه في التراب. لكن إذا مرّوا سينتبهون إلى الآثار. هه... صحيح. ماذا سنفعل؟ ربما نضع بعض القش فوقه وبعض الأوراق.

كان الوحل قد علق بأقدامنا، فوقفنا عند بعض الشجيرات، ومسحنا أحذيتنا بجذوعها، وأكملنا المسير، كان المطر قد كف عن التهطال، وأطل القمر هنيهة من فرجات الغيم، فبدت إلى الأسفل السنديانة الكبيرة. كنا نمسك بجذوع الأشجار لئلا ننزلق، ونحك أكفنا ببعضها ونمسح الوحل العالق بها بملابسنا. هل أنت متأكد أنك تركت اللغم تحت السنديانة؟ نعم، مررت البارحة عند العصر ووضعته تحت بعض الأعشاب.

ألم يأت أحد إلى هناك؟ لربما رآه أحد ما. ما بك... هل يخرج أحد إلى الوعر في هذا البرد؟! كنت أتحرق كي أرى اللغم، وكنت أظنه كبيراً حقاً، لكن عندما وصلنا أخذه بسام من تحت العشب وحمله بيده الصغيرة، ومشى. ربما يكون قد تلف بسبب المطر. كلا، قال عمي إنه لن يتأثر. أين سنزرعه؟ وهل هو شتلة زيتون لنزرعه؟ لقد سمعتهم في القرية يتحدثون عن زرع الألغام. وهل الألغام تزرع؟ إنهم بلهاء حقاً. من بعيد، كانت أصوات ابن آوى تتردد في الوديان، وادياً بعد آخر يتنقل الصدى، وكان القعر جد رطب وبارد، وكانت تجري بين الأشجار سواقٍ صغيرة لها خرير لا يكاد يسمع، وسط تصخاب حفيف الأشجار وصفير الرياح. لم تقل لي أين سنزرعه؟ أنت مصر على كلمة زرع الألغام... سندفنه في الأرض، سنختار طريقاً ضيقة تمر عليها الدورية.

ماذا يحصل إذا انفجر بالدورية، هل يقتلون جميعاً؟ هذا لغم صغير، عمي قال إنه يقطع القدم إلى الركبة، ويحدث انفجاراً قوياً. هل معك شي‏ء لنحفر به؟ سنحفر بأي غصن قوي. مشينا، ووجدت غصناً فأخذته، ورحنا نحفر وسط طريق القدم حيث ضاقت بين الأشجار، وكانت الأرض طرية موحلة فحفرنا بسرعة، وضعنا اللغم في الحفرة، فيما أصرّ بسام على نيل شرف سحب الأمان بنفسه، ثم ردمنا الحفرة بالتراب ونثرنا بعض الأغصان والأوراق، وقفلنا عائدين نحو القرية. في الطريق، تناهت إلى مسامعنا نداءات من أبواق المسجد: بسم اللَّه الرحمن الرحيم... غير أننا لم نفهم الباقي، ولما صرنا عند شجرة السنديان غدا النداء أكثر وضوحاً: ضاع عباس وبسام من قرية عربصاليم، على من يجدهما أن يقول لهما إننا نبحث عنهما وليعودا إلى المنزل... كان هذا أبو علي الذي يؤذن يومياً بصوته الأجش. لقد اكتشفوا غيابنا، ماذا سنفعل...!؟ ماذا ستقول لأبيك؟ سأقول إنني كنت ألعب. حتى منتصف الليل؟! عندي فكرة، سنقول إننا كنا في عرس في القرية المجاورة، هه، ما رأيك؟ حسناً... رحنا نصعد ونسرع الخطى بكل ما أوتينا من قوة الصبا، حتى وصلنا الساحة قرب المسجد، واللهاث أخذ منا كل مأخذ.

ويا للمفاجأة، كان أبي وأبو بسام وجمع من رجال القرية والنساء وخمسة من جنود لحد واقفين في ضوء نوافذ المسجد، تحت رذاذ المطر، بانتظارنا. ولما وقعت عينا أبي بسام علينا صاح بأعلى صوت. أين كنتما؟ بحنكته المعهودة، أجاب بسام دون تلعثم: كنا في عرس في القرية المجاورة. لقد أصبحت شاباً، ولم تتعلم الأدب بعد، لم لم تقل لي أنك ستخرج من القرية! وتقدم إليه بخطىً سريعة وصفعه بكفه على خده، فيما أتى أبي، الذي كان أكثر هدوءاً، وقبض على يدي وجرّني إلى المنزل، وهناك قضى وقتاً طويلاً وهو يوبخني بأعلى صوته. في سن الخامسة عشرة، كانت تلك أول محاولة لكي نصبح من شباب المقاومة.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع