د. غلام علي حداد عادل(*)
إن التباين الرئيس بين الثقافة الغربية الحديثة والثقافة الإسلامية، ينعكس في تعريف الإنسان. فإذا كان الإنسان في الثقافة الغربية كائناً تشكل المعنوية فرعاً وشيئاً سطحياً من حياته المادية، فهو في الثقافة الإسلامية كائن يرى في المعنوية الكمال الذي ينشده والغاية التي يسعى إليها في حياته. والقضية المهمة هي أن المعنوية والروحانية في الإسلام لا تتعارض أبداً مع المادية والجسمانية. فالدين لم يأت كي يقتطعنا بشكل نهائي عن الجسم والدنيا، وإنما جاء ليعلمنا "التوازن"، كي نبقى في منأى عن التطرف من خلال الاحتفاظ بالتوازن والاعتدال، وأن لا ننظر على سبيل المثال إلى جسمنا فحسب وأن لا نقصر التفكير على الانتفاع به واستثماره فقط.
* الهدف من اللباس
الإنسان في الأفكار والرؤى المعنوية كافة ومنها الإسلام لا يرتدي اللباس من أجل أن يعرض جسمه، وإنما يرتديه لكي يستره. فاللباس بالنسبة له صيانة وبمنزلة سور القلعة الذي يحفظ جسمه، ويذود به عن كرامته. الهدف من اللباس التقليل من الإثارة الجنسية لا تثوير الغريزة. إنه ليس الجلد الثاني للإنسان، وإنما بيته الأول.
إنسان الإسلام لا يرى كماله في تزويق جسمه وتجميله كالبضاعة التي تُعرض للبيع، بل يلجأ إلى بيع نفسه لله، بدلاً من بيع جسمه للناس. نعم، قضية اللباس والزي، ليست بسيطة أو سطحية كي يمكن أن نعدّها خاضعة للذوق فحسب. إنها قضية ثقافتين ورؤيتين للعالم، والتباين بينهما بحجم المسافة بين الأرض والسماء. ويتجلى هذا التباين في القضايا الرئيسة كافة المتصلة بالإنسان ومن بينها لباسه وزيه. وليس هناك شيء أسهل من تقليد الآخرين في أزيائهم من الناحية النظرية، غير أنّ القرون تمر وتبقى المجتمعات محتفظة بأزيائها التقليدية ولا تبادر إلى تقليد الآخرين، لأنّ تغيير اللباس لا يحدث اعتباطاً، وإنما هو نتيجة من نتائج تغيّر الثقافة. وما لم ينسلخ المرء عن ثقافته، لا يمكن أن ينسلخ عن زيّه، وما لم ينصع لثقافة أمة ما، لا يرتدي زيها. ولهذا السبب بالذات ورد في الحديث: "مَن تشبّه بقوم فهو منهم". فلباس أي إنسان، إنما هو عَلَم بلاد وجوده، وهو عَلَم يرفعه فوق بوابة بيت وجوده، ويعلن به عن الثقافة التي يتثقف بها. ومثلما تعبّر الأمم عن إيمانها بهويتها الوطنية والسياسية من خلال وفائها واحترامها لِعَلَمِها، يعبر الإنسان عن إيمانه بقيمه وأفكاره من خلال ارتداء الزي الذي ينسجم مع تلك القيم والأفكار.
* اللباس وسرّ الضمير
ربما سمع الكثير من القرّاء بهذا الشطر الشعري الذي يقول "لونُ الوجه يُفصح عن سر الضمير"، ومراد الشاعر أنّ تغير اللون الذي يظهر بشكل طبيعي في وجه الإنسان، ينبىء ولا شك عن التغيّر الناجم في باطنه. وبإمكاننا أنْ نذهب أبعد من مراد الشاعر فنقول: ليس اللون الطبيعي للوجه فحسب، بل الألوان الصناعية الأُخرى التي يُصبَغ بها تنبىء أيضاً عن سر الضمير. فنوع مساحيق التجميل التي تصبغ بها المرأة وجهها، على صلة مباشرة بوضعها الباطني ونزعاتها النفسية. وليس تزويق الوجه فحسب، بل تزويق وتجميل الجسم بأسره، والشكل وطبيعة الفستان والثوب وقصره أو طوله، تكشف جميعها عن سر ضمير المرأة أيضاً.
* اللباس هوية المجتمع
اللباس أو الزي لا يخضع لتأثير الثقافة الاجتماعية فحسب، بل ويكشف أيضاً عن هوية أفراد المجتمع. ومن الطبيعي أنّ هناك صلة وثيقة بين هوية الأفراد والثقافة الاجتماعية العامة. والمجتمع الذي لا قيمة فيه للقيم المعنوية والإنسانية العليا، ويخلو العالم الباطني للإنسان فيه من الكرامة، وليس لديه معنى مستقل عن المظاهر الخارجية، فلا بد أن تتبلور فيه شخصية الإنسان وهويته بشكل عام على أساس اهتمامات الآخرين وآرائهم فيه. ومن البديهي أنْ يلجأ أفراد مثل هذا المجتمع إلى بلورة شخصياتهم عن أي طريق ممكن بما فيه الزي. وتفصح تصاميم الأزياء والتغييرات الهائلة وغير المنطقية التي تطرأ على الأزياء دون انقطاع، عن وجود مثل هذه الأرضية في ضمير الأفراد ونفسياتهم. وفي المجتمعات الغربية بشكل خاص أدّى النظام الإداري القوي، والمكننة وهيمنة الأنظمة الاقتصادية والحكومات على التربية والتعليم ووسائل الإعلام، إلى ازدياد الشبه بين أفراد المجتمع يوماً بعد آخر، وانتزع عنهم كل إمكانية للبروز الفردي والإبداع الشخصي، الأمر الذي أدى إلى حاجة كل فرد للإعلان عن وجوده وتمايزه عن الآخرين. وحينما يعجز الفرد عن ذلك من خلال الطرق المنطقية المعقولة، يجد نفسه مضطراً لسلوك أي طريق آخر لتحقيق هذا الهدف، وبالتالي يسعى عن طريق التغيير في الزي والشكل وطريقة تجميل الوجه وشعر الرأس، إلى جلب اهتمام آخرين نحوه، وإنقاذ نفسه من الضياع في المجتمع، لأنه لا يؤمن بحقيقة أسمى من المجتمع، مثل الحقيقة الإلهية، ويرى في الضياع أو الذوبان في المجتمع فناءً لشخصيته وموتاً له. وحلّ دور مصمّمي الأزياء كي يلبّوا دعوة هذا الظمأ الذي لا يرتوي، وينتهزوا هذا الضعف الخلقي الناجم عن الانحطاط المعنوي.
* لباس الشهرة
لحمّى الأزياء أو الموضة عوامل خلقية ونفسية أخرى. فالمجتمع الذي يعاني بشدة من التفاوت الطبقي، لا بد وأن ينعكس هذا التفاوت فيه على نوع البيت، وطراز السيارة، وأسلوب الحياة، ولا سيما في نوع الزي واللباس. ويسعى الأغنياء والنبلاء بشكل خاص إلى الإعلان عن ثرائهم من خلال نوع اللباس الذي يرتدونه. واللباس أفضل طرق المباهاة والتفاخر، وبإمكانه أنْ يقول من خلاله للآخرين أي إنسان هو! ويعبّر الزي أيضاً عند البعض عن الغرور، والحسد، ومنافسة الآخرين. كما يؤثر حبّ الجاه وحب السيطرة على الآخرين، في انتخاب نوع اللباس.
وقد يلجأ الرجال إلى استخدام ألبسة نسائهم للتباهي والتفاخر وحبّ الظهور والاستعلاء. ونحن نعلم أنّ المرأة عند الرجل في المجتمعات التي تفتقد إلى المعنوية ليست سوى واسطة للامتياز والتفوّق، وهي ليست سوى أداة من الأدوات الكمالية. وكما أنّ الرجل يسعى للتباهي من خلال سيارته وبيته وحذائه وقبّعته، نراه أيضاً يلجأ إلى تقديم نفسه للآخرين والإشارة إلى أهميته من خلال عرض زوجته وزيّها. يُطلق في ثقافتنا الإسلامية على اللباس الذي يُلبَس من أجل استقطاب أنظار الآخرين: "لباس الشهرة"، ومَنَعَ الإسلام الرجال والنساء بشدة عن ارتداء هذا اللباس. قال الإمام الحسين بن علي عليهما السلام: "من لبس ثوباً يشهره، كساه الله يوم القيامة ثوباً من النار".
حينما تلجأ الطبقة المرفهة الثرية إلى التباهي، عن طريق التمايز عن الناس العاديين، واستقطاب أنظار الآخرين بواسطة انتخاب تصاميم أزياء جديدة، يجد العوام أنفسهم مجبرين على تقليد الطبقة الأرستقراطية، والانكباب على التصميم الجديد، مما يُخرجه في فترة قصيرة عن دائرة تلك الطبقة ويكتسب صفة العمومية، فيسقط من عينها فتندفع ثانية نحو تصميم زيّ جديد فيجد عامة الناس الذين أثقلتهم تكاليف الزي القديم أنفسهم أمام زي جديد وموضة جديدة. وينطلقون ثانية كالخراف خلف ذوق الطبقة المرفهة الثرية. وما أقسى هذا الأسر والعبودية! وما أكثر أنواع هذه العبوديات في المجتمعات الحرة وذات الفكر الحر.
(*) رئيس مجلس الشورى في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.