مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

قرآنيات‏: اللباس كرامة الإنسان‏

الشيخ عمار حمادة

 



لطالما قام القرآن الكريم بتعداد نِعَم اللَّه على الإنسان، ولم يكن ذلك على سبيل التمنُّنِ، بل لأجل تنبيه الغافلين إلى مصدر النعم وواهبها. ومن جملة الآيات الشريفة التي تذكِّر الإنسان بالنعمة الإلهية، تلك الآيات التي تتحدَّث عن اللباس. فالآية 26 من سورة الأعراف تقول: ﴿يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. وقد عبَّرت الآية بكلمة "أنزلنا"، لتشير إلى أنَّ الآمر باللباس ومعطيه هو اللَّه سبحانه وتعالى، وعادةً ما يعبِّر عن النعمة والمنَّة بهذا التعبير، وذلك لأن النِّعَم، كالمطر والنور، تنزل من أعلى.

* أنواع اللباس‏
في هذه الآية عرضٌ لأنواع اللباس، حيث ذكرت:

أولاً: اللباس الضروري، فقالت ﴿لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ، وبينت دوره في أنَّه لستر العورة، بمعنى إخفاء العورة وحفظ البدن من التأثيرات الطبيعية المختلفة.
ثانياً: اللباس الظاهري، فقالت ﴿وَرِيشًا، والرياش أو الريش هو ما ظهر من اللباس وما كان فيه الجمال، فبينت أنَّه للتجمُّل والمفاخرة.
ثالثاً: اللباس المعنوي، فقالت "ولباس التقوى"، وهنا أعطت التقوى صفة اللباس لأنها تحفظ روح الإنسان، كما تحفظ الثياب البدن.
هذا باختصار شديد ما قدمته الآية بخصوص اللباس وأنواعه، ولكن قد يجد المتفحص ملاحظات أخرى يجدر الوقوف عندها، لمعرفة الدور الأساسي للّباس في حياة الإنسان.

الملاحظة الأولى: ذكرت الآية نعمة اللباس على آدم مباشرةً، بعد ذكر نعمة تبوئه الدار والمستقَرّ في هذا العالم، وهذا فيه دلالة على أنَّ اللباس هو النعمة التالية أهميةً على نزول آدم إلى الدنيا. وهذه نعمة كبيرة تعد السبب الأساسي في كون الإنسان يمتلك إمكانية التكامل، بخلاف الموجودات الأخرى التي لها في سلَّم الكمال الوجودي مقام لا تعدوه إلى غيره، وذلك لأنها لم تنزل إلى الدنيا، كالملائكة مثلاً.

الملاحظة الثانية: وصفت الآية اللباس بأنواعه الثلاثة بأنَّه خيرٌ، ولفظ الخير يستعمل عادةً في القرآن لكل ما هو متصل بتكامل الإنسان ورقيه، كما في ﴿... وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا... (البقرة: 265). وقد يقال هنا: إنَّ هذا الوصف مرتبطٌ بالنوع الثالث من اللباس فقط، أي بلباس التقوى، ولكن اسم الإشارة "ذلك" يُرَجِّح كون الوصف للأنواع الثلاثة من اللباس، وإلا لكانت الآية قالت "هذا خير" وليس "ذلك خير".

الملاحظة الثالثة: عبَّرت الآية عن نعمة اللباس بأنها من آيات اللَّه، والآيةُ علامةٌ دالة على شي‏ء، فعلامَ تدل نعمة اللباس يا ترى؟ إنَّنا إذا قمنا باستقراء جميع الموجودات، من حيوانٍ ونباتٍ وجماد، فإننا لا نجدها مأمورة باللباس، إذ لكلٍ منها لباسه الذي لا يستطيع أن ينزعه (الأغلفة والقشر واللحاء والأصواف والأوبار والريش والجلد... الخ). أمَّا الإنسان فإنَّ أمره باللباس دوناً عن جميع الموجودات الأخرى، يدلُّ على فرادةٍ فيه وتميُّز له عن تلك الموجودات مجتمعةً، وهذا تكريمٌ له عليها. فالأمر باللباس هو كرامةٌ للإنسان، وذلك ندركه بشكل أفضل عندما ندرس مقابله، فخلع اللباس يسميه القرآن فاحشةً، كما نجد في الآية 28 من سورة الأعراف ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ حيث فسِّرت الفحشاء الواردة فيها بحسب مناسبة نزول الآية بأنَّها العري(1). فقد كان المشركون يطوفون بالكعبة عراةً ويقولون: نطوف كما ولدتنا أمهاتنا، ولا نطوف في الثياب التي قارفنا فيها الذنوب. فجاءهم الجواب بأنَّ هذا فاحشة، واللَّه لا يأمر بالفحشاء. إذاً، العري فاحشة، والفاحش من القول هو كل قولٍ يُنْزِل من كرامة المقول عليه، فالعري ينزل من الكرامة، ومقابله اللباس الذي يرفع من كرامة فاعله والمأمور به.

* لباس المرأة:
كما أنَّ الأمر باللباس كرامة للإنسان بشكل عام، فإنَّه كرامة للمرأة بشكل خاصٍ ومؤكَّد، وتدل على ذلك الكيفية التي شرَّع القرآن الكريم فيها الحجاب عليها. فقد جاء في مناسبات النزول أنَّ بعض نساء المسلمين كنَّ يذهبنَ لصلاة العشاء خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في مسجد المدينة، وكان بعض الشبَّان ينتظرونهنَّ على طريق المسجد حال رجوعهنَّ، وكانوا يؤذونهنَّ بالكلام، وعندما كان المسلمون يعاتبوهم كانوا يتذرَّعون بأنَّهم كانوا يظنونَهُنَّ إماءاً، وذلك لأن لباسهنَّ لم يكن مختلفاً عن لباس الإماء، فنزلت الآية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْن (الأحزاب: 59). وقد جاء في تفسيرها(2): يا أيها النبي قل لهؤلاء النسوة فليسترن موضع الجيب، الذي يشمل رقبة وصدر المرأة، بالملاءة الموضوعة على الرأس بخلاف الإماء اللائي يخرجن مكشفات الرؤوس والرقاب وبعض الصدور، فذلك أقرب إلى أن يُعْرَفن بزيهنَّ أنَّهنَّ حرائر فلا يؤذيهنَّ أهل الريبة، أو أنَّهنَّ معروفات بالستر والصلاح فلا يتعرض لهنَّ الفسَّاق. فاللباس الشرعي المأمورة به المرأة، إلى جانب تغطية أماكن الزينة منها، هدفه تمييزها عن الإماء وعن النساء المعروفات بالفسق كي لا يتم التعرُّض لها، وهل هذا إلاَّ لكرامتها؟ كما أنَّ الآية 33 من سورة الأحزاب، والمتوجهة بحسب ظاهرها إلى نساء النبي صلى الله عليه وآله، يمكن أن تعم جميع النساء، وهي تبين بدورها أن الأمر بالحجاب هو تكريمٌ للمرأة، حيث تقول: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَالَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا مشيرةً إلى أنَّ النساء المتقيات لسن كالنساء الأخريات، فهنَّ بمقتضى تقواهنَّ التي تدفعهنَّ لارتداء اللباس الشرعي، أكرم وأشرف من النساء اللواتي لا تقوى لهنَّ، وبالتالي لا يلتزمن بهذا اللباس. فعن ابن عباس (3) أنَّ معناها: (ليس قدركنَّ كقدر غيركنَّ من النساء، أنتنَّ أكرم على اللَّه فهو بكنَّ أرحم... وشرط اللَّه عليهنَّ التقوى ليبيِّن أنَّ فضيلتهنَّ بالتقوى لا باتصالهنَّ بالنبي صلى الله عليه وآله).

* الحجاب الإسلامي بالمنظور المعاصر
هذه الرؤية إلى اللباس، وخاصةً لباس المرأة إن اعتقدنا بكونها رؤية قرآنية حقاً فإنَّها تشكِّل في عصرنا الحالي جزءاً من الأسلحة الدفاعية القوية، التي تساهم في عملية تحصين مجتمعنا وثقافتنا بوجه الهجوم الفكري والإعلامي، الذي تشنه الحضارة الغربية على حضارتنا الإسلامية. فما تردد في الآونة الأخيرة من تعليقات ومقررات، تصب في خانة الهجوم على اللباس الإسلامي الشرعي، من خلال اعتباره علامة تخلُّفٍ تدل على الكبت الجنسي الذي يعيشه مجتمعنا أو تؤدي إليه، وعلى هوامش الحرية الضيقة التي تعاني منها المرأة، وعلى المسخ الواقع على شخصيتها، يصبح معزوفةً ممقوتة ويفقد بريقه الإعلامي ومؤثريته الفكرية، إذا عرضت مسألة اللباس الشرعي طبق هذه الرؤية. فعندما تدرك نساؤنا التكريم الموجود في الدعوة إلى الحجاب، تصبح لديهنَّ الدعوة إلى السفور وإلى الإباحية التي يطلقها المجتمع الغربي لهنَّ دعوةً ذات مستوى حضاري منحط، وعملية ذات أهداف متناقضة مع الكرامة الإنسانية. فالإنسان الغربي يريد المرأة بلا لباس فضلاً عنها بلا حجاب لأنَّه حقيقةً ينظر إليها على أنَّها سلعة تجارية وآلة للّذة والترفيه، فقد أدخلها على كل منتجاته لتسويقها، وعلى كلِّ أفلامه لترويجها، وإلى مجالسه، لتقوم بدور الترفيه والتسلية له بعد متاعب العمل، وهو بذلك يعبِّر عن منزلة المرأة لديه.

أما القرآن عندما أراد لها أن تلتزم باللباس الشرعي، فليس ذلك إلا تكريماً لها، من أجل تنزيهها عن الأدوار التي رسمتها لها المخيلة الشيطانية للرجل، وكذلك من أجل إحاطة شخصيتها الأنثوية بهالةٍ من العفة، لتبقى خارج المجال العام للتناول وداخل المجال الخاص للطهارة الأسرية التي هي الحضن الأدفأ لنمو كل الطاقات الإنسانية الصالحة والفعَّالة.


(1) مجمع البيان، ج‏4، ص‏260.
(2) مجمع البيان، ج‏8، ص‏200.
(3) مجمع البيان، ج‏8، ص‏170.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع