الشيخ حسين كوراني
* القداسة قيمة معرفية:
على العكس من السائد في تحميل معنى القداسة أعباء الطواغيت الذين فرضوا تقديسهم على الناس، أو خُدع الناس بهم فقدسوهم، فإن القداسة في حد ذاتها قيمة معرفية هي غاية في السمو والنبل والعقلانية، لأنها تنطلق من الآتي:
1- إصرار العقل على معرفة الحقيقة.
2 - إصراره على التمييز بينها وبين الباطل الهباء، وبذل كل جهد عقلي صريح لعدم الإغترار بما فيه شوب الباطل.
3 - والإصرار على معرفة سبل تجلي الحقيقة في ميادين الحياة وأصناف الموجودات.
4- الإصرار على معرفة الطرق التي تجعل الفرد في عقيدته والسلوك تجلياً من تجليات الحقيقة بحسبه، يغذ السير في دروب التماهي معها والتكامل بها.
* التقديس وكرامة الإنسان:
في ضوء ما تقدم، لا ينبغي الفصل بين التقديس وبين كرامة الإنسان، سواء أردنا من التقديس قيام الإنسان بتقديس الحق والحقيقة، أو أردنا به قداسة الإنسان وكونه أهلاً للتقديس، حيث إن المحور في ذلك كله "قدس الحق" و"قداسة الحقيقة"، وبما أن الإنسان هو المؤهل الوحيد وبامتياز لمعرفة الحقيقة والتزامها والتفاني في الذوبان فيها حتى العبادة، فإن الحديث عن قداسة الحقيقة، هو الوجه الآخر عن حديث "كرامة الإنسان"، تماماً كما هو العلم الوجه الآخر لقيمة العالِم.
* يضاف إلى ذلك في باب المردود العملي للتقديس، أنه لا قداسة بمعزل عن الفائدة العملية للناس، فليس المقدس هو الذي يأخذ من الناس، بل المقدس هو الذي يعطي ولا يحتاج أن يأخذ شيئاً، حتى الولاء فإن من احتاج إلى الولاء ليتقوم به، ليس مقدساً. وما تلازم التقديس مع المردود العملي، إلا لون آخر من ألوان "كرامة الإنسان".
* قداسة كُلٍّ بحسبه:
تكشف هذه القداسة الحصرية للحقيقة أي للحق تعالى، أن كل قداسة تنسب إلى غير الحقيقة، فإنما هي مستمدة من التزامها الحقيقة، ولذلك فهي مكتسبة من درجة هذا الإلتزام، فليست القداسة لشخص أو لمكان أو زمان أمراً اعتباطياً، بل هي وفق معايير دقيقة وتخصصية تقوم على قاعدة قداسة الحق والحقيقة، ولذلك فهي إن ثبتت في مورد معين، فلا بد من معرفة درجتها والحدود.
* الثابت والمشروط:
كما تكشف قاعدة التفريق بين المقدس لذاته وبين المقدس لالتزامه الحقيقة، أن من القداسة ما هو ثابت للمقدَّس، ومنها ما هو مشروط ببقاء هذا الإلتزام وعدم الخروج عنه، فَرُبّ مقدَّس ينقلب على عقبيه، ورُبّ غير مقدس يصبح مقدساً، وبينهما مراتب لا تخفى.
* أقرب الخلق إلى الحق سبحانه:
كما يرتبط تقديس سيد الأنبياء والخلق أجمعين، المصطفى الحبيب صلى الله عليه وآله، بتقديس الحقيقة جذرياً، فإن تقديس أي إنسان أو غير إنسان مرتبط جذرياً بتقديس رسول الله صلى الله عليه وآله، فهو التجلي الإنساني الأتم للحقيقة المطلقة، بمعنى أن كرامة الإنسان عند الله تعالى تدور مدار الحقيقة المحمدية التي تمحضت في تجلية الحقيقة المطلقة فإذا هي منها هي بقدرة الله تعالى وحوله سبحانه وقوته. ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي﴾ ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ (وأرادوا التوبة) جَاءُوكَ﴾!!
* تقديس الأنبياء والرسل:
يتضح بجلاء أن تقديس الأنبياء والرسل عليهم السلام، جميعاً أو فرادى، لا ينفصل عن تقديس المصطفى الحبيب، لسببين:
1 - إن تقديسه صلى الله عليه وآله يتضمن تقديسهم عليهم السلام، حيث إن المؤمن به يؤمن بجميع رسل الله تعالى وأنبيائه.
2- كما إن تقديس كل منهم فرع التزامه الحقيقة التي لم يبلغ أحد منهم مرتبة تجليها الأتم غيره، ومن هنا كان صلى الله عليه وآله الشاهد على الأنبياء، ولم يبعث نبي إلا على الإعتراف له صلى الله عليه وآله بالنبوة.
* تقديس أهل البيت:
ويلحق بتقديس الرسول صلى الله عليه وآله تقديس أهل البيت عليهم السلام، بل تقديسهم تقديسه، فهم منه صلى الله عليه وعليهم كالضوء من الضوء، وقد أجمعت الأمة على تلقي ما روي عنه صلى الله عليه وآله في حقهم عليهم صلوات الرحمن، على قاعدة أنهم حقيقة محمدية وشأن نبوي، ولذلك لا يشك موحّد في أن على كل صحابي أن يحبهم، وإلا فإنه خارج عن شرف الصحبة.
* قال الشيخ المفيد:
".. قوله سبحانه: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾ يعني رسول الله صلى الله عليه وآله. فحصلت البشائر به من الأنبياء أجمعهم قبل إخراجه إلى العالم بالوجود، وإنما أراد جل اسمه بذلك إجلاله وإعظامه، وأن يأخذ العهد له على الأنبياء والأمم كلها، فلذلك أظهر لآدم عليه السلام صورة شخصه وأشخاص أهل بيته عليهم السلام، وأثبت أسماءهم له ليخبره بعاقبتهم ويبين له عن محلهم عنده ومنزلتهم لديه، ولم يكونوا في تلك الحال أحياء ناطقين ولا أرواحاً مكلفين، وإنما كانت أشباحهم دالة عليهم حسب ما ذكرناه"(1).
* وقال رحمه الله تعالى:
"بشّر الله تعالى الانبياء المتقدمين بنبينا محمد صلى الله عليه وآله قبل وجوده في العالم، فقال سبحانه ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾ يعني رسول الله صلى الله عليه والله ﴿قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾ يعني عهدي ﴿قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ قال جل اسمه ﴿النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾ فكان نبينا عليه وآله السلام مكتوباً مذكوراً في كتب الله الاولى، وقد أوجب على الأمم الماضية معرفته والإقرار به وانتظاره، وهو عليه السلام وديعة في صلب آبائه لم يخرج إلى الوجود"(2).
* وقال الشيخ الصدوق:
ويجب أن نعتقد أن الله تعالى لم يخلق خلقاً أفضل من محمد والأئمة، وأنهم أحب الخلق إلى الله، وأكرمهم عليه، وأولهم إقراراً به لما أخذ الله ميثاق النبيين ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾. وأن الله تعالى بعث نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأنبياء في الذر. وأن الله تعالى أعطى ما أعطى كل نبي على قدر معرفته نبينا، وسبْقِه إلى الإقرار به،وأن الله تعالى خلق جميع ما خلق له ولأهل بيته عليهم السلام وأنه لولاهم لما خلق الله السماء والأرض، ولا الجنة ولا النار، ولا آدم ولا حواء، ولا الملائكة ولا شيئاً مما خلق. صلوات الله عليهم أجمعين(3).
* تعظيم شعائر الله، تقديسها:
حول معنى تعظيم شعائر الله في قوله تعالى: ﴿.. وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ تلتقي كلمات العلماء الأعلام من الفريقين على الآتي:
1- أن المراد بشعائر الله: كل ما له إضافة إلى اللَّه توجب له المنزلة والحرمة، كالمسجد والقرآن والحجر الأسود وما سواها من الشعائر الإلهية(4) وبعبارة أخرى: الشعائر "هي معالم للطاعات والقرب"(5).
2 - أن المحور في هذا التعظيم هو نسبة المعظَّم إلى الله تعالى.
3 - أن هذا التعظيم يشمل الأشخاص، والأشياء(6).
* المؤامرة الشيطانية:
هل يمكن أن يكون تلاقي الشياطين الغربيين من أميركيين وغيرهم، مع شياطين الخوارج على ضرب قدسية رسول الله صلى الله عليه وآله، مجرد صدفة؟ أم أنها مؤامرة شيطانية واحدة تعددت مظاهرها؟ هل من باب الصدفة أن يتم تفجير قبة العسكريين عليهما السلام؟ لا بد لكل موحد أن يطيل الوقوف عند القاسم المشترك بين هؤلاء الذين يصرون على ضرب علاقة المسلم بمن لا يقبل الله تعالى إسلام مسلم إلا بالوقوف ببابه والتفاني في حبه وحب عترته صلى الله عليه وآله، وبين المؤامرة الأمريكية الغربية التي كانت آيات الشيطان رشدي مظهرها الأول، ولما فشلت أطلت نفس المؤامرة برأسها من جديد في الصور المسيئة للمصطفى الحبيب التي صرح بوش نفسه بضرورة عدم السماح للمحتجين عليها أن يحققوا ما يريدون. إن القاسم المشترك المشار إليه هو بالتأكيد إدراكهم لحقيقة أن بنيان التوحيد كله يرتكز إلى القاعدة التي حددها الله تعالى لتثبيت توحيده سبحانه بين الناس، وهي العلاقة العقلية والقلبية العارمة بالحب والشوق والحنين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله. وكما أدركت المخابرات البريطانية يوم كانت بريطانيا القطب الأوحد هذه المعادلة وعملت على ضرب علاقة الأمة بنبيها، فقد أدركت المخابرات الصهيونية الأمريكية نفس المعادلة، وزادها إصراراً على نفس المؤامرة الشيطانية، هذه الصحوة الإسلامية الخمينية الهادرة التي ضيّقت على الكفر الخناق، والتي لا يشكل وقوع الغدة السرطانية بين ناري حماس وحزب الله، والتوثب الإسلامي المتنامي في مصر والعراق، إلا بعض مظاهرها. ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ، وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (الصف: 8).
(1) الشيخ المفيد، المسائل السروية، ص43.
(2) الشيخ المفيد، رسائل في الغيبة، ج1، ص12- 13.
(3) الشيخ الصدوق، الاعتقادات، 93.
(4) السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن 496 وانظر: الطبرسي، مجمع البيان 7 150 وانظر: ابن جرير الطبري، جامع البيان 17- 206.
(5) الجصاص، أحكام القرآن 1 - 119.
(6) انظر: تفسير القرطبي، القرطبي، ج6، ص38 وأحكام القرآن الجصاص، ج2، ص376، والتبيان، الشيخ الطوسي، ج7، ص313، وتفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، ج7، ص15، وجامع البيان، ابن جرير الطبري، ج71، ص210، والبيان في تفسير القرآن، السيد الخوئي، ص471، وتفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ج1، ص407، وج4، ص374، وتفسير ابن كثير، ابن كثير، ج3، ص229.