مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

رواية الاعتقال: "نبضُ الحرية في الأدب المقاوم"‏

ولاء إبراهيم حمود

 



في شعرنا العربي جذورٌ عميقة الغور لأدب الاعتقال، ولئن احتفت القافية العربية قديماً بكل تجربة إنسانية حية فلقد استطاعت الرواية على حداثة سنِّها، أن تستوعب ما استوعبه الشعر من حنين إلى قلب أمٍّ أو وجه حبيبةٍ أو شوق إلى مقبض سيف أو منازل صبا... وهذا ما نراه جلياً في روايات أدب الاعتقال سواء كتب الأسير تجربته بنفسه (مقاومة) لسهى بشارة، أو تفاصيل الإقامة في الزنزانة التي اختصت بها المجموعة القصصية القصيرة التي كتبها بعد تحرره الطبيب السيد محمد مرتضى الأمين (بعض القسوة وقصصٌ أخرى)، أو مع رواية كتبها آخرون عن آخرين كرواية (الشعاع القادم من الجنوب) لوليد الهودلي، (وعلى بوابة الوطن دهاليز الخيام) للدكتورة أميرة الحسيني.

*الشعاع القادم من الجنوب‏
وليد الهودلي كاتب نص "الشعاع القادم من الجنوب" أسيرٌ فلسطيني طالت إقامته في سجن هداريم "تلموند" في داخل فلسطين، وقد عاش عن كثب وقرب تجربة مجاهد حزب اللَّه الذي اختاره بطلاً لقصته، التي كانت كتابتها بحد ذاتها بطولةً رائدةً لم تُسبقْ، حيث كتب في ظلِّ الارهاب الصهيوني وتحت سياط جلاديه هذا النص المقاوم، الذي كان إخراجه من سجن هداريم بطولة أخرى حفظت هذا الجهد المُعاش والمكتوب ليصل إلى لبنان وطن القصة ومحط الرجال العائدين مقاومين، ولو تحت وطأة القيد وثقل الحديد، وسطوة السجان الغاشم. تبدأ قصة إسماعيل الزين في بلدته "قبريخا" ذات صباحٍ صيفي رائق من العام 1987، كان في الثامنة عشرة من عمره، وقد اعتمد ذاك الصباح موعداً لإنجاز مهمة تفجير ملالةٍ إسرائيلية مع أربعة مجاهدين سواه... وبعد نجاح "سراج" قائد المجموعة في إصابة الهدف المرصود منذ زمن طويل قام الصهاينة بتمشيط المكان بجنون حقدهم الناري، فأصيب إسماعيل إصابة بالغة في قدمه وفي سائر أنحاء جسمه، وفَقَد وعيه، ليستيقظ بعد قليل، وسط مجموعةٍ من الذئاب البشرية أدرك حينها بسرعة أنه بات أسيرهم. حيث نقلوه إلى الداخل الفلسطيني المحتل، ليبدأ إسماعيل الزين رحلة الأسر "المعاصر" بكل عذاباته "المتطورة"، التي لم تنجح في زحزحة ثباته، وحذره في كتمان أسراره، وقدرته على مناورتهم وإفشاله كل محاولات استدراجه للتعاون معهم، رغم استخدامهم الوحشي لساقه المصابة المزروعة "بلاتيناً". طالت مدة أسر إسماعيل ثلاثة عشر عاماً، ساعده على تحملها إيمانه القوي باللَّه ولجوؤه إليه كلما اشتدت عليه خطوب جلسات التحقيق بندائه المستغيث "أحد، أحد" يسكّن به آلامه، ليثير جنون سجَّانيه، ليخوض معهم مرة أخرى بقواه النفسية وأسلحته الإيمانية بحار ظلمهم يستخرج منها مدد المواجهة والاحساس بأنه في أسره لم يغادر ساحة مقاومته ومنازلته لهذا العدو اللئيم. يتميز أسلوب القصة بالسخرية فنياً كما عملياً من الاحتلال وأزلامه، فاللون الإسلامي الأصيل فيها لم يبهت بطرائف التعبير، ولا بالابتسامة الشجاعة الواثقة بالنصر الإلهي، التي حملها النص بأمانةٍ بعد أن واجه بها إسماعيل آلامه ووحشية سجَّانيه. إنها بحق روايةٌ كتبها بمداد التجربة الحية من عاشها مشاركاً فيها سواه.

*دهاليز الخيام
كتبت أميرة الحسيني في أدب الاعتقال نصوصاً مفتوحة على كل احتمالات الدهشة الواقعية إزاء حدثٍ مدهش، هو ولادة المقاوم العنيد في شخص الأسرى، الذي اقتحمت بقلمها الآسر أعماقه، واستطاعت أن تحمِّل الحبر والورق الكثير من معاناته، كل هذا في التزام عالٍ منها لتبني قضية الأحرار في سجون الأعداء، حتى أستطيع أن أجزم اليوم أن ما قدَّمته الحسيني لهذا الأدب جعله يفوز بإحدى أهم كاتباته، وجعل كتاباتها نموذجاً نادراً لقضية الالتزام في الأدب الهادف إلى بناء الإنسان، الذي رضي يوماً الاحتراق ليضي‏ء للآخرين الآتين ولو بعد حين ظلمات دروبهم، واضعاً من حزنه الذاتي أساساً للانتصار لأمته على مبدأ: إن لم أحترق أنا، وتحترق أنت، ونحترق نحن، فمن ذا الذي ينير بنور اللَّه هذه الظلمات؟ تبدأ حكاية دهاليز الخيام، من ليل معتقل الخيام الدامس، الذي كتب فيه داود فرج تجربته بالدم، والوجع، بأظافره تقتلع قضبان الزنزانة، ليفتح كوَّة الخلاص. وبعد وصف مطوَّل لمجريات التحقيق وعذاباته فيها وعذابات سواه من الأسرى في "معتقل الخيام"، وبعد سماعه من محمد عساف لتفاصيل فيلم "الهروب الكبير" بدأ داود مع محمد عساف ومحمود رمضان وسعود أبو هدلا الهروب من معتقل الخيام، وكان التحدي الكبير في القرار والمراقبة والتخطيط، للخروج من مكان الداخل فيه مفقود والخارج مولود. إذاً في ليل السادس عشر من تموز تشكلت أولى الخرائط عن داخل المعتقل من خيوط كنزة صوفية مهترئة، واستفادوا من حكايات أحد السجناء عن رحلات صيده، "قبل أن يصطاده جلادو الخيام" لتحديد الأماكن المحيطة بالمعتقل والصالحة "لرحلتهم" التاريخية. هائلة ومهيبة هي الأحداث التي صادفت الأبطال "الهاربين" من براثن العملاء، وأنياب أسيادهم، وقد انتهت بكل أهوالها، بمحمود رمضان جريحاً في حقل الألغام المجاور للمعتقل، والذي نجا منه الثلاثة الباقون بأعجوبة، عاينوا خلالها مواجهة حادة للحياة وهي تتشظى فوق أسلاك حقل الألغام، في خطوة تعبرها على قصرها الحياة كلها من حافة الموت الذي يواجهها متفجراً داخل الحقل الملغوم ليعجز فيما بعد سعود أبو هدلا عن متابعة الطريق فيبقى في سفح الجبل منتظراً من يعيده إلى المعتقل ليروي مع محمود فيما بعد الجزء الثاني من رواية أميرة الحسيني، التي ما زالت مخطوطة، تنتظر الولادة نشراً. ليتابع محمد وداود الطريق إلى صيدا ضمن ممرات لم تذكرها الرواية، بدواعي "أمنية"، ليطلا بعد ثلاثة أيام من "هروبهما" الشجاع في مؤتمر صحفي، يسخران من أَمْنيات الصهاينة وعملائهم ويعلنان إن الحياة توأم الإرادة وصنوها.

ويبقى من نافل القول، إن الروايتين اعتنتا بتخليد صلابة المواجهة لأسرانا. فالصهاينة لم يستطيعوا اعتقال قيم إسماعيل الزين بتجريده منها، لقد زاده الاعتقال فيها صلابة وزادها فيه رسوخاً... كما أنهم لم يستطيعوا اعتقال إنسانية داود فرج ولا شفافيته ولا صدقه مع نفسه ولا جرأته في الاعتراف المقرون ببطولة قول كلمة الحق في وجه سلطانٍ جائر.. لقد دخل داود معتقل الخيام ونفسه غنية بكل هذه الشفافية وبها واجه معتقليه وبها تسلّح في رحلة "هروبه" الشجاعة.. لذلك ومن خلال وحدة الأسيرين استطاعت الروايتان تأطير صورة هذه البطولة بأبهى تلاوينها، ففي "شعاع قادم من الجنوب" صورتها فوتوغرافياً.. و"بفلاش" الكلمة الحية في "دهاليز الخيام"، رسمتها أدبياً لوحة بانورامية لسيرة بطل في معتقله. يبدو جلياً أن المكان والزمان على امتدادهما الهائل في الروايتين لم يستطيعا اعتقال تلاوين الفجر الداخل إلى النصّين مع مقاومة بطليهما، لأن المقصود لم يكن ربط أحداث التاريخ المقاوم فحسب. لقد قام الزمان والمكان البارزان في النصين بتظهير صورة هذين البطلين مقاومين عجز القيد والسجّان عن اعتقال إيمانهما بإنسانيتهما، وهذا يكفيهما لتسجيل انتصار الإرادة الشامخة على القيد المفترس في مسيرة الإنسان نحو غده المشرق الذي ينتظره بإذن اللّه.. وفي النص الأدبي المعاصر لنقرأ نحن اليوم ما كتبه وليد الهودلي لنفسه، عن نفسه، لنا لا لإسماعيل فقط... وما كتبته أميرة الحسيني بريشة القلب ومداد الإيمان بروعة البطولة الفذة.. وجرأة القلب الشجاع، وما يحتاج لإنصافه دراسة كاملة تظهيرية لوحدة الجهاد بالكلمة الحرة كما جهاد الإنسان الحر، نصاً مقاوماً يخترق ظلام المعتقلات البشعة ليحملنا إلى مساكب الضوء، حيث تقاوم الكلمة لأجل الحرية حتى حدود الاستشهاد، كي لا تبقى عروساً من شمع لا حياة فيها، علَّ الشهادة تحركها فتدب بها الحياة، لتكتب من جديد أدباً سُمّي توصيفاً بأدب الاعتقال، لكنه واقعاً هو نبض الحرية لأنه أدبها وأدب الأحرار في قلب النص المقاوم...

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع