الشيخ مصطفى قصير(*)
يقابل القرآن الكريم بين فريقين من الناس في بعض آيات سورة المجادلة:
الفريق الأول يصفهم بأنهم:
﴿تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ...﴾.
﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ...﴾.
﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ...﴾.
﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾.
﴿أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾.
الفريق الثاني يصفهم بأنهم:
﴿كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾.
﴿وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾.
﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾.
﴿أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
المقابلة بين حزب الشيطان وحزب الله هي مقابلة بين اتجاهين متعاكسين ومتعارضين، ولا بدّ من تحديد الخيار بين هذين الاتجاهين: إما أن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا ويتمسك بمنهجهم ومسارهم فيكون من حزب الله الغالبين المفلحين، أو يدخل في ولاية الشيطان فينقاد له ويتولاه ويسير في خط الضلالة الذي يدعو أتباعه لسلوكه ويربط مصيره بمصيره فيكون من حزب الشيطان الخاسرين. فهل هناك عاقل يحب أن يكون من الفريق الأول ولا يحب أن يكون من الفريق الثاني؟! ولا شكّ أنّ الدخول في ولاية الله يقتضي اللجوء إلى الأبواب والمداخل المؤدية إليها ويقتضي سلوك السبيل الوحيد الموصل إليها وهو المعبّر عنه بالصراط المستقيم. كما أن ذلك يستلزم التغلب على العقبات التي يضعها الشيطان الرجيم في الطريق، والتخلص من الكمائن التي ينصبها وهو القائل ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِين﴾ (الأعراف: 16 - 17). وقد حذّر الله عباده المؤمنين من كيد الشيطان فقال ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ (النساء: 119- 120).
السؤال المطروح: كيف يمكن للإنسان أن يضمن الوصول إلى ولاية الله عز وجل ليكون من حزبه ومن الفائزين؟! وكيف يضمن التغلب على العقبات والموانع والإغراءات التي ينصبها الشيطان الرجيم في طريقه للحيلولة دون الوصول إلى ذلك الهدف، ولجرّه نحو الانحراف واتخاذ الاتجاه المعاكس والدخول في حزب الشيطان وفي الخاسرين؟! وبعبارة أخرى ما هو المنهج التربوي الذي يجب أن يعتمده الإنسان لتحصين نفسه من هجمات الشيطان وإحراز السلامة وبلوغ الغاية التي خلقه الله من أجلها؟ المنهج التربوي الإسلامي يقوم على رؤية فكرية وعقائدية تحدّد فلسفة وجود الإنسان وغاية الخلق والمصير الذي يسعى إليه وهو ما يطلق عليه مصطلح المبدأ والمعاد، وعلى ضوء ذلك يتحدّد المسار العملي بما يتفرع عنه من حقوق وواجبات وقيم أخلاقية ووسائل واعتبارات تتكامل معاً لتوصل الإنسان إلى الغاية. فالإنسان خلق ليبقى ولم يخلق للفناء والاندثار، وعليه فالحياة الدنيوية المحفوفة بالفناء والموت ليست إلا حلقة من حلقات الحياة ومحطة مؤقتة ينتقل منها الإنسان إلى حياة دائمة وأبدية خالصة لا موت فيها، يعمل هنا ويسعى سعياً دؤوباً ليجعل حياته الأخروية حياة كريمة مفعمة بالسعادة والطمأنينة إذا أحسن الاختيار وأصاب الطريق ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيه﴾ (الانشقاق: 6). فالحياة الدنيا مرحلة للاختبار والامتحان (الدنيا مزرعة الآخرة)، والحياة الأخرى للأجر والجزاء والحصاد وللحياة الحقيقية. هذه الرؤية تنعكس بشكل مباشر على المنهج التربوي المتبنى من قبل الفريق المؤمن بها وعلى ضوئها تتحدد الأهداف والقيم الأخلاقية التي تحكم المسار العملي وطريقة التعامل مع الوسائل والإمكانيات المتاحة.
* أولاً: الأهداف والغايات
عند تحديد الأهداف والغايات التربوية يجب أن تكون منسجمة مع الرؤية السابقة سواء كانت أهدافاً معرفية أو وجدانية أو عاطفية أو سلوكية أو غير ذلك، ويجب أن تكون مشتقة من تلك الغاية الكبرى التي تحكم مسار الحياة بشكل كامل. ولا يجوز أن يتم اختيار أهداف متنافية مع ذلك المسار. كما أن ترتيب الأهداف من حيث الأهمية وتحديد الأولويات يخضعان لمترتبات تلك الرؤية، فإذا تزاحمت الأهداف نتيجة ضيق الوقت المتاح أو محدودية القدرات والإمكانيات، فالأولوية تبقى بالطبع للأهداف الأكثر انسجاماً مع الرؤية الفكرية والعقائدية، والأكثر مدخلية في تحقيق خطوات متقدمة على ذلك المسار، فيتم عندئذ التضحية بالأهداف ذات البعد الدنيوي المحض لحساب الأهداف ذات البعد الأخروي، ويتم تقديم الأهداف الأقرب إلى بناء الروح وزكاة النفس والتي تحقق نتائج أهم وأفضل وأسمى وعلى علاقة مباشرة بالحياة الأخروية الباقية والدائمة. وهذا هو الذي يفسّر الاستعداد الكبير للتضحية والإيثار عند الصادقين في الإيمان، وهو الذي يفسر إعراض الزاهدين عن الدنيا وزخارفها وملذاتها، وهو الذي يفسر لنا كيفية وصول بعض الناس إلى مرتبة متقدمة في الصبر والتحمل والثبات.
* ثانياً: القيم والأخلاق
قيم الإيمان والارتباط بالمولى عز وجل تتميّز أيضاً بأنها مستقاة من الرؤية المذكورة آنفاً، فلا ينظر إليها من منظار دنيوي ضيق، والمناط فيها ليس الحصول على مدح الناس والتخلص من ذمهم، ولا مجرد حفظ النظام البشري وتحقيق الرقي والتقدم والتطور الحضاري فحسب، ولكن هناك ما هو أبعد، فقيم الإنسان تسعى لتحقيق السعادة الحقيقية والدائمة للإنسان عن طريق تربية ملكات النفس وصقل الروح بما يعطيها سمواً ورفعة وطهارة تتجاوز حدود الاعتبارات الدنيوية. القيم والأخلاق بناءاً على هذه القاعدة لا تتغيّر بتغيّر المصالح ولا تتبدل بتبدل الأحوال والظروف والاعتبارات لأنها تتعلق بكمالات النفس الإنسانية والروحية.
ثالثاً: الوسائل والإمكانات
وفق الرؤية المتقدمة، القوة لا تكتسب للسيطرة والتحكم، المال لا يطلب لنفسه، الإمكانات والقدرات والمهارات كلها وسائل محكومة للقيم وفي خدمة الأهداف السامية، فالعزة في طاعة الله عز وجل، وفي المقابل الذل في ارتكاب معصيته، والقوة الحقيقية هي المستمدة منه تعالى بالتوكل عليه والاستعانة به.
*خصائص التربية الإسلامية
من خصائص المنهج التربوي الإسلامي أنه يعمل على خطين:
- الخط الأول: التربية الذاتية والإصلاح من داخل الذات وهو ما يصطلح عليه في الخطابات الشرعية بجهاد النفس وتزكيتها، لأنه منهج يقوم به الفرد اتجاه ذاته فيراقب نفسه ويقيّم الواقع ويحدّد بتجرد وإنصاف عيوب الذات، أي مواطن الخلل وفق معيار محدّدات الأخلاق الإسلامية التي وردت في القرآن الكريم والسنة الشريفة، ويضع خطة العلاج والإصلاح وينفّذ الخطة بنفسه، معتمداً أسلوب المحاسبة اليومية للاستفادة من نتائجها في التغذية الراجعة لتعديل الخطة أو تطويرها، فيصل إلى الهدف المحدّد، بتدريب نفسه على اجتناب المعاصي والموبقات والابتعاد عن ملكات الرذيلة وترك العادات السيئة، ويقوم بتنمية ملكات الفضيلة والسجايا الحميدة التي تساهم في سمو الذات وطهارة النفس. ويبقى يراقب ويحاسب باستمرار لحفظ المسار التصاعدي لدرجات التخلّق.
- الخط الثاني: هو خط الإصلاح من خارج الذات
لا يتحقق الصلاح الاجتماعي إلا بصلاح أفراد المجتمع، وكما يتحمل المؤمن المسؤولية اتجاه إصلاح نفسه يتحمل المسؤولية اتجاه إصلاح غيره في أسرته ومحيطه وبقية أبناء مجتمعه الصغير أو الكبير. هذا النوع من الإصلاح أطلق عليه في الخطاب الشرعي "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" وله أحكامه وشروطه، وهو عبارة عن تكافل اجتماعي في الجانب الثقافي والسلوكي والعبادي، كما هو التكافل الاجتماعي في المجال المعاشي والصحي.
* ومن خصائصه أيضاً أنه يعمل على محاور ثلاثة:
- المحور الأول: تنمية الحس الديني والارتباط بالله تعالى، ويتجلى ذلك بالخطوات العملية التي يلتزم باتباعها. ومن خلال منظومة العبادات اليومية والأسبوعية والموسمية، التي من شأنها تعميق حالة الارتباط بالله واتباع شريعته وتعاليم دينه، وبعبارة أخرى تقوية وتعميق الحالة الإيمانية، كونها الحجر الأساس الذي يقوم عليه صرح النظام الإسلامي والمجتمع الإيماني المعافى والسليم.
- المحور الثاني: تقوية الضمير الأخلاقي وملكات الفضيلة بأساليب متعددة، وهنا نجد نظاماً دقيقاً رسمه الدين الحنيف بغية الوصول إلى مستوى عالٍ من الالتزام بالقيم الأخلاقية وعشقها وجعلها جزءاً من شخصية الإنسان المؤمن ومن السجايا الراسخة المتأصلة فيه.
المحور الثالث: تعديل الرغبات والغرائز والميول، وإخضاعها لنظام دقيق يعمل على إشباعها في الحدود التي تحقق الغايات التي وجدت من أجلها وتحول دون الوقوع في الانحراف والإفراط في الاستجابة لها، فتحد من سيطرتها وتقف دون تجاوزها لحدودها التي تقتضيها حكمة الخلق.
كما أن من خصائصه أنه يعتمد منهج الوقاية والعلاج معاً، فالتربية الوقائية لها الدور الأهم من التربية العلاجية، وقديماً قيل "درهم وقاية خير من قنطار علاج"، فيضع الإسلام مجموعة توجيهات وأحكام لها علاقة بالوقاية والحيلولة دون الاقتراب من المشكلة، خاصة في مواطن الخطر فيبرز ذلك واضحاً في طريقة الوقاية من الانجرار إلى شرب المسكرات لما لها من تأثير سلبي خطير على المجتمع وأبنائه وقواهم العقلية وتوازنهم العاطفي، وكذلك نجد المنهج الوقائي في طريقة التعامل مع الانحرافات الجنسية فيضع سلسلة ضوابط سلوكية وقائية تمنع الإنسان من الاقتراب من مواطن السقوط والانحراف. وأخيراً.. ينبغي الإشارة إلى أن الدخول في حزب الله يفترض أن يسلك المؤمن هذا الطريق من إصلاح الذات ويتحمل المسؤولية اتجاه إصلاح المجتمع البشري وفق ما جاء به الوحي ونطق به الرسول صلى الله عليه وآله وبلّغه الأوصياء.
(*) مدير عام المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم.