الشيخ يوسف سرور
انطلقت فكرة حزب اللَّه والمقاومة الإسلامية في بيئة مسلمة، كانت تشكّل حضناً طبيعياً لها. لكن الظرف الذي كان مهيمناً حينها، كانت تحكم أجواءه مجموعة من التيارات السياسية والثقافية المتعددة المشارب، المتنوعة الأصول والجذور، والتي تنطلق بمعظمها من أرومات بعيدة عن وجدان المسلمين، ومن منابع أجنبية عن مبادئ الإسلام وثقافة وتقاليد وأعراف المجتمع المسلم. عملت المقاومة وفق فلسفة أصل وجودها، وهو مواجهة العدو الصهيوني الأجنبي عن محيطه، الغريب عن البيئة التي استوطنها، المحتل لأرض المسلمين، الغاصب لوطن مسلم، المنتهك لمقدسات الشعوب والجماعات التي كانت تقوم على هذه البقعة من العالم.
إذاً، كانت انطلاقة حزب اللَّه ومشروعه تسير عكس تيارات متضاربة، متناقضة، مختلفة، وأرادت تثبيت مفاهيم جديدة ثقافياً، وعملت على زرع فكر سياسي جديد ينطلق من هذه المبادئ، مشفوعاً بأداء صادق، معززاً بتضحيات جسام تشمل كل شرائح العاملين ولا تستثني أيّاً منها. تمكّنت المقاومة من تقديم نموذج جديد في العمل المقاوم، قائم على مبادئ الجهاد والشهادة، وتقديم المصالح العليا على المصالح الفئوية والحزبية والطائفية، عبر سنوات طويلة من العمل الدؤوب والمواقف الواضحة، وتقديم مشروع المقاومة من خلال التجربة الحية، والخطاب المباشر، والأداء المدروس جداً، بطبعات جديدة ومنقّحة، تخضع دائماً للنقد الذاتي القاسي أحياناً من أجل حفظ المصداقية، وسلامة الأداء وحسن التوجّه، مع التعامل مع كل مرحلة وفق متغيراتها، تحاول تكييف تكتيكاتها مع هذه المتغيرات مع الحفاظ على الأصول والمبادئ والأسس.
كان مشروع المقاومة واضح الأفق منذ الانطلاقة، واضح الاستراتيجية، عارياً من أي غموض، خالياً من أية تعقيدات، على الرغم من هذا التنوع والاختلاف العجيب في البيئة التي يقوم عليها مشروع المقاومة، البالغة حدّ التناقض، وأحياناً كثيرة حدّ التناحر. يعني المقاومة في أصل انطلاقتها، وفي أصولها ومبادئها، وعملها وأدائها، وفي مواقفها وسياساتها قامت في مثل هذه البيئة على مبدأ سهل ممتنع. وهذا من أعاجيب السياسة، والعمل الحزبي. في كل ذلك، قدمت المقاومة نموذجاً رائعاً لا يجارى، قائماً على المصداقية، الثبات، الوضوح، القرب من هموم المواطنين، حمل القضايا الكبرى كأولويات. حتى وصلت إلى هذه النتائج الباهرة في تاريخ الصراع مع العدو اللئيم، الذي ما اعتاد على مثل هذا الحضور، وهذا الإصرار الذي حيّر ساسته وسادته وحكماءه، حتى اعترف بالعجز والفشل أمام هذه الآلة البشرية، وأقرّ بالهزيمة النفسية والمعنوية والعسكرية، وتوّج ذلك باندحار وتقهقر لسياسته وآلته ومشروعه وأحلامه وآماله وأمانيه، إلى حدّ التقوقع خلف أسوار الخوف والحذر، والشعور بالإحباط وعدم إمكانية استمرار مشروعه حيّاً، فضلاً عن تحقيق كامل دولته.
مشروع المقاومة هذا، يحتاج إلى ضخّ ثقافةٍ وتسييل مبادئ في: الاعلام، المنابر، المجالس، المحافل، المنتديات، الدوريات وغيرها، وصولاً إلى الكتاب؛ وكل هذا بحاجة إلى الكشف عن سواعد الجدّ في ميادين تُركت سنين طويلة لجماعات ونخب ومثقفين ساروا في اتجاه أجنبي عن ثقافة الأمة، غريب عن همومها ومشاكلها، ينهل من منابع غير أصيلة أوصلت حال الثقافة إلى هذا التردي والانسلاخ والالتقاط وصولاً إلى التغريب. يأتي "معرض المعارف" الذي تقيمه جمعية المعارف خطوة في سياق مشروع الثقافة المقاومة، ليصبح لمشروع المقاومة الحضاري حضور في هذا الميدان يحاكي حضورها في الميادين الجهادية والسياسية والإعلامية، إنه خطوة واعدة على طريق ألف ميل.