إن الإنسان كما أن له في هذه الدنيا صورة مُلكية دنيوية، خلقها الله تبارك وتعالى في كمال الحسن والجمال والتركيب البديع، والمتحيرة إزاءها عقول جميع الفلاسفة والعظماء، والذي لم يستطع علم معرفة الأعضاء والتشريح حتى الآن أن يتعرف حاله بصورة صحيحة، وقد ميّزه الله تعالى عن جميع المخلوقات بحسن التقويم وجودة وجمال المنظر، كذلك فإن له أي للإنسان صورة وهيئة وشكلاً ملكوتياً غيبياً، وهذه الصورة تابعة لملكات النفس والخُلق الباطن.
وفي عالم ما بعد الموت سواء في البرزخ أو القيامة إذا كان خُلق الإنسان في الباطن والملكة والسريرة إنسانية، تكون الصورة الملكوتية له صورة إنسانية أيضاً؛ وأما إذا لم تكن ملكاته ملكات إنسانية، فصورته في عالم ما بعد الموت تكون غير إنسانية أيضاً، وهي تابعة لتلك السيرة والملكة. فمثلاً إذا غلبت على باطنه ملكة الشهوة والبهيمية، وأصبح حكم مملكة الباطن حكم البهيمة، كانت صورة الإنسان الملكوتية على صورة إحدى البهائم التي تتلاءم وذلك الخلق؛ وإذا غلبت على باطنه وسريرته ملكة الغضب والسبعية، وكان حكم مملكة الباطن والسريرة حكم سبع، كانت صورته الغيبية الملكوتية صورة أحد السباع والبهائم. وإذا أصبح الوهم والشيطنة هما الملكة، وأصبحت للباطن والسريرة ملكات شيطانية كالخداع والتزوير والنميمة والغيبة، تكون صورته الملكوتية صورة أحد الشياطين بما يتناسب وتلك. ومن الممكن أحياناً أن تتركب الصورة الملكوتية من ملكتين أو عدة ملكات، وفي هذه الحالة لا تكون على صورة أي من الحيوانات، بل تتشكل له صورة غريبة بحيث إن هذه الصورة بهيئتها المرعبة المدهشة والسيئة المخيفة لن يكون لها مثيل في هذا العالم.
نقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن بعض الناس يحشرون يوم القيامة على صورة تحسن عندها صور القردة، بل وقد تكون لشخص واحد عدة صور في ذلك العالم، لأن ذلك العالم ليس كهذا العالم، حيث لا يمكن لأي شيء أن يتقبل أكثر من صورة واحدة له، وهذا الأمر يطابق البرهان أيضاً وثابت في محله. واعلم أن المعيار لهذه الصور المختلفة والتي تعد صورة الإنسان واحدة منها، والباقي صور أشياء أخرى هو وقت خروج الروح من هذا الجسد، وظهور مملكة البرزخ، واستيلاء سلطان الآخرة، والذي أوله في البرزخ عند خروج الروح من الجسد، فبأية ملكة يخرج بها من الدنيا، تتشكل على ضوئها صورته الأخروية، وتراها العين الملكوتية البرزخية، وهو نفسه أيضاً عندما يفتح عينه البرزخية يرى نفسه بالصورة التي هو عليها إذا كان لديه بصر. وليس من المحتم أن تكون صورة الإنسان في ذلك العالم على نفس تلك الصورة التي كان عليها في هذه الدنيا. يقول سبحانه وتعالى نقلاً عن لسان البعض حين الحشر ﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا﴾ (طه: 125) فيأتيه الجواب من الله ﴿كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ (طه: 126).
فيا أيها المسكين؛ قد كانت لديك عين ملكية ذات بصر ظاهري، ولكنك في باطنك وملكوتك كنت أعمى، وقد أدركت الآن هذا الأمر، وإلا فإنك كنت أعمى منذ البداية، ولم تكن لديك عين البصيرة الباطنية التي ترى بها آيات الله. أيها المسكين! أنت ذو قامة متناسقة وصورة جميلة في التركيب الملكي. ومعيار الملكوت والباطن غير هذا. عليك أن تحرز الاستقامة الباطنية كي تكون مستقيم القامة يوم القيامة. يجب أن تكون روحك روحاً إنسانية كي تكون صورتك في عالم البرزخ والقيامة صورة إنسانية... أنت تظن أن عالم الغيب والباطن وهو عالم كشف السرائر وظهور الملكات مثل عالم الظاهر والدنيا، حيث يمكن أن يقع الخلط والاشتباه..
إنّ عينيك وأذنيك ويديك ورجليك وسائر أعضاء جسدك، جميعاً، ستشهد عليك بما فعلت، بألسنة ملكوتية، بل بقول بعضٍ بصور ملكوتية. أيها العزيز؛ افتح سمع قلبك، وشد حزام الهمة، وارحم حال مسكنتك، لعلك تستطيع أن تجعل من نفسك إنساناً، وأن تخرج من هذا العالم بصورة آدمية، لتكون عندها من أهل الفلاح والسعادة.