الشيخ نعيم قاسم
يضيق صدر بعض الناس عندما يرون انتشار الكفر على الأرض، وجنوح أكثر الناس إلى الفسق والفساد والانحراف، وتَتَشوَّش أفكارهم عندما لا يرون خلافة الله تعالى على الأرض تتحقق من خلال المؤمنين، ويستعجلون النصر ويرونه بطيئاً، ويستعجلون الفرج ويرتبكون لتأخره خلافاً لتوقعاتهم!
لكن لو اتضحت الصورة التي رسمها لنا القرآن الكريم والروايات الشريفة، وتعرَّف الناس على الحقائق، لزالت الالتباسات، واطمأنت قلوبهم. أبلغنا الله تعالى عن قراره بخلافة الإنسان على الأرض: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 30)، وذلك على الرغم من إشارة الملائكة بوجود من يفسد فيها ويسفك الدماء، ذلك أن الخلافة تتحقق بالمؤمنين ولو كانوا قلة، فالخلافة ليست مرتبطة بإقامة الدولة الإسلامية فقط، ولا بانتصار المؤمنين على الكافرين، وإنما تتحقق بوجود أفراد من البشر يحملون رسالة الله تعالى، ويترجمونها في حياتهم العملية، ليشكلِّوا بذلك نموذجاً ناجحاً في التعبير عن خلافة الله تعالى على الأرض، وهذه هي حال الأنبياء والأوصياء والعلماء والمجاهدين والمجاهدات والمؤمنين والمؤمنات، ثم يسود الإيمان على الأرض في نهاية المطاف، لقوله جلَّ وعلا: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون﴾ (الأنبياء: 105).
لم يحدِّثنا جلَّ وعلا في أي آية عن قراره بحكم المؤمنين للأرض في كل مراحل الحياة، ولا في أغلب مراحل الحياة، بل أكد دائماً على أن الأكثرية ستجانب الحق، وتكون مع الكفر، ولا تشكر الله تعالى على عطاءاته، قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُون﴾ (هود: 17)، وقال: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَ كُفُوراً﴾ (الإسراء: 89)، وقال: ﴿اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ﴾ (غافر: 61).
يحدث هذا الابتعاد عن الإيمان على الرغم من الحرص الشديد للنبي صلى الله عليه وآله، ومساعي الأنبياء عليهم السلام والأئمة عليهم السلام، ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين﴾ (يوسف: 103). فلا تتعبوا أنفسكم أيها المؤمنون، ولا تعيشوا الأزمات، فواجبكم أن تحافظوا على إيمانكم ودينكم، وأن تعملوا الصالحات، ليرضى الله تعالى عنكم، وتفوزوا في امتحانات الدنيا، هذه هي مشيئة الله تعالى، في أن تُترك الحرية للناس للاختيار بين الإيمان والكفر، من دون قهرهم باتجاه الإيمان، ولا تعريضهم لما يسلبهم إرادتهم، بل مع توفير الزينة والمغريات التي تجذب إلى الباطل، قال تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾(آل عمران: 14)، ليكون الفائز من الذين انتصروا على ذواتهم، واستحقوا المكافأة، فلا يكن حكمك على ظاهر الأمور، هذه هي إرادة الله تعالى في عدم إكراه الناس على الإيمان، ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس: 99).
إنَّ كثرة الكافرين والفاسقين لا تضر بخلافة المؤمنين على الأرض، وأي انتصار يحصل للمجموعة المؤمنة في مرحلة من مراحل حياة الأمم إنما يحصل عندما تمتلك هذه المجموعة بعض المقومات المادية والعملية، حيث يقوي الله تعالى من فاعليتها، لكنَّه لا يتدخل لإلغاء القوانين العامة التي وضعها في النصر والهزيمة، فهو يعطي بعد أن يوفِّر المؤمنون المقدمات: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (محمد: 7). لكنَّه حسم لنا خيار آخر الزمان، مع الإمام المهدي عجل الله فرجه، حيث يكون النصر وإقامة دولة الإسلام العالمية أمراً حتمياً مهما كانت الصعوبات والظروف، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله: "لا تقوم الساعة حتى تُملأ الأرض ظلماً وعدواناً، ثم يخرج رجل من عترتي (أو من أهل بيتي) يملؤها قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وعدواناً"(1).
وعن الإمام الباقر عليه السلام: "دولتنا آخر الدول، ولن يبقى أهل بيت لهم دولة إلاَّ ملكوا قبلنا، لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا: إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء، وهو قوله عزَّ وجل: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾(2). فليكن عملنا لنكون أهلاً للخلافة على المستوى الفردي إذا لم تنجح الجماعة في ذلك، ومع الجماعة إذا سارت في هذا الاتجاه، يحدونا الأمل ببقية الله في الأرضين الإمام الحجة محمد بن الحسن المهدي عجل الله فرجه، فهذا هو طريق النجاح في الدنيا والثواب في الآخرة.
(1) الطبري، دلائل الإمامة، ص: 467.
(2) الشيخ الطوسي، الغيبة، ص: 473.