إيفا شعيتو
يعتقد الكثيرون أن من اغترب عن وطنه فقد نجا من عيش الذلّ و الهوان ، و عاش في بحبوحة و هدوء بال . و لكنّ واقع المغتربين في مجتمعات الغربة ينبئ عن عكس ذلك خاصة هذه الأيام . إن نقطة ارتكاز التأريخ اليوم عند المغتربين هي الحادي عشر من سبتمبر 1991. لذلك فهم يستخدمون تاريخ ما قبل الحادي عشر و حينه و ما بعده لانعكاس الآثار المترتبة عليه على حياتهم اليومية . إذاً، فالتاريخ قد توقف عند ذاك النهار ليبدأ من جديد.
من مجتمع الإغتراب يطالعنا مشهد يومي هو قصة مضحكة مبكية تتناقلها ألسن المغتربين العائدين من أستراليا هرباً من آثار الحادي عشر من سبتمبر . و لعل هذه القصة تنقل معاناة كل المغتربين الذين يعيشون ثلاث غربات: غربة عن الوطن، وغربة داخل بلد المهجر وغربة ما ترتّب على الحادي عشر من سبتمبر. كانت إحدى الشركات الاسترالية الضخمة على موعد مع القناة السابعة لإجراء مقابلات و تصوير لأكبر غرفة عمليات للشركة في منطقة المحيط الهادئ، بعد أن قامت الأخيرة بإنزال برنامج عملها الجديد . و لكن سبق الحدث المتوقع حدث من نوع آخر و إليكم التفاصيل بعفوية الموظّف على لسان صاحب القصة... يقول: "أتفاجأ و قبل وصول القناة السابعة" بزئير "المدير العام قادماً من مكتب مديرنا المباشر منادياً باسمي: "فلان إلى المكتب فوراً". كان هذا المدير يكرهني كرهاً جمّاً، ولم أجد تفسيراً لذلك سوى أنني مسلم عربي.
وفي المكتب أفاجأ بتحقيق باشره المدير بالصراخ عالياً في وجهي :- نحن "اكتشفنا" أنك تستعمل خطّ الهاتف للدخول إلى شبكة الإنترنت و هذا يعرّض أمن المكان لخطر فكيف نعرف مع من تتكلم و ماذا تخطط و تفعل؟ و أشرح لهما: - أنا أستخدم الشبكة فقط لتحديث البرامج ثم إنني لست مشتبهاً به، ولا أتعامل مع أية جهات حتى تكون ردة فعلكما بهذه الحدّة، ثم إنني لم أقترب من معدّات الشركة و عادة أستخدم الحاسوب المحمول الخاص بي. ثمّ سألت : - لماذا أنا؟ هل لأني عربي ومسلم؟ لماذا أنا تحديداً و هناك سبعة موظّفين في المكتب، ويستطيع جميعهم استخدام الحاسوب و الولوج إلى الشبكة؟ ويجيبني المدير بخبث واضح في محاولة منه لتبرئة نفسه : - أحد أصدقائك قد وشى بك.
- لا اعتقد ذلك أبداً...كان جوابي هكذا، ترافقت عملية الإستجواب بأساليب إرهاب تحقيقية فكانا بين الحين والآخر يضربان بكفيهما طاولة المكتب بقوة لتتطاير الأوراق الراقدة عليها. وكانا يصرخان أيضا بين الحين والآخر بصوت مرتفع لاستفزازي. ولكن لم أعِرهما انتباهاً. و في النهاية قلت لهما : - من الممكن أن أكون قد أخطات حينما استخدمت خط الهاتف مرة أو اثنتين للدخول إلى الشبكة ،ولكني لم أكن أعتقد بأن ذلك خطأ ولن أكرر "الجريمة" مرة أخرى. والآن إذا لم يعد عندكما شيء آخر فإني أود إكمال عملي.
ولكن مديري لم يكتف بما فعل. وتحقيقه المخابراتي لم يكن قد انتهى أيضا فقال لي: - نريد أسماء الذين يستخدمون الشبكة من زملائك الموظفين. واستفاقت النخوة العربية الإسلامية في داخلي دفعة واحدة: - اسمعا...لن أشي بأسماء زملائي حتى لو كنت أعلم فلا تحاولا. المهم...خرجت من المكتب وأخبرت الزملاء بما حدث، فانهالت الشتائم على المدير بأصوات منخفضة من كل حدب وصوب. ولكن القصة لا تكمن هنا، بل في ما حدث بعد ذلك...بعد حوالي خمس دقائق أراد المدير النزول إلى مكاتبنا لمشارفة صحافيي القناة السابعة على الوصول. الباب المؤدي إلى المكاتب مصنوع من الزجاج غير الشفّاف وعلى جانبيه ترامى حاجز من الزجاج الشفّاف. يعني لا مجال لأن يخطئ أحدهم الباب صح؟. الواقع كلا..لأن المدير العام لم ير الباب لانشغال فكره بـ "الإرهابي" الذي يعمل عنده وقرر الدخول من الحاجز الجانبي وبواسطة رأسه، فتشقق الزجاج كله.
ركضت و زميلي بسرعة لنسأله عن حاله، لأن صوت ارتطامه بالحاجز قد تردد في أنحاء الشركة كلها، وكأن حجراً ضخماً قد اصطدم بالزجاج. أحضرنا له كرسياً ليرتاح، ولكنه لم يتكبّد عناء الجلوس ولا حتى عناء شكرنا وقال بلؤم: لا أشكو من شيء. و تابع مشواره لاستقبال الصحافيين. قمت بعدها -كوني مسؤولا ًعن الصحة والسلامة في الشركة أيضاً- وبمساعدة أحدهم بترميم الزجاج وتلصيقه بـ "ستيكرز" كبير حتى يتماسك فلا يقع وتكون الفضيحة كبيرة أمام الصحافة. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فهناك أمام الصحافة، كان مديري واقفاً ليرجمني بنظرات ناريّة. كاد يموت غيظاً. لماذا؟ لأن المسلم العربي قد سرق الأضواء من أمامه. فلقد علمت مسبقاً من طريق غير مباشر أن جماعة التلفزيون قادمون، لذلك رتّبت هندامي على أفضل وجه. وبحكم موقعي في الشركة، كان التركيز منصبّاً علي في مقابلة القناة السابعة لأني على تماس مباشر مع الأعمال والتفاصيل كلها عندي كما أدرّب الموظّفين الجدد أيضاً. ولما انتهينا من المقابلة كان المدير العام جثة هامدة واقفة على قدمين، محترقاً بعنصريته البغيضة وقد بدت عليه علامات الاستياء الشديد. سألني الزملاء: ماذا فعلت له؟ فأجبتهم: ببساطة...لا شي، لقد لعنته لأنه ظلمني. دعوت الله تعالى أن يضربه ضربة كبيرة على رأسه!!!.
إلى هنا انتهت قصة صاحبنا. ولا نملك نحن إلا الكلمة والأسف لوجود مثل تلك المشاهد في البلدان التي تدّعي الحضارة. ولا يمكن القول في هذه المعمعة إلا بمسألة ثابتة وهي أن عقل الرأي العام الغربي معرّض للخداع وبسهولة أيضاً، وللأسف فإن وسائل الإعلام والدعاية الإعلامية لماكينات المرشحين -وفيما بعد السياسيين- في تلك البلدان قد نجحت في خلق "فزّاعة" وهمية اسمها الإرهاب، وللأسف أيضاً قد نجحت في ربط " الفزّاعة " باسم العربي والمسلم . وانطلت الحيلة حتى على العديد من النخب الثقافة والفكرية الغربية وبعض العرب هنا، لتنطبق عليهم نفس صورة العربي الغبي المسوّق لها في الإعلام الغربي. وبالطبع فقد جرى تسويق فكرة "الفزّاعة" على طول البلاد الغربية الامريكية والاوروبية وسواها فهي خير معين ليقوم السياسيون بتطبيق برامجهم بأحسن وجه يريدونه، وخير معين للهروب من المآزق السياسة وإيجاد التبريرات "المنطقية" و "ستيكرز" كبير يكمّ أفواه الجماهير العريضة إن حاولت الإعتراض على سياسة ما تنتهجها الحكومات. ويكفي اليوم بعد خلق الـ "فزّاعة"، الضغط على أزرارها الصغيرة كلما اقتضت "مصلحة الأمن القومي" السياسية ذلك، لإيقاظ مارد الرهاب من الإرهاب الذي زُرع في لاوعي الجماهير الغربية حتى يخرج من قمقم النفوس المريضة إلى الحياة اليومية للمواطن الغربي، ولكن تكفي أيضا الإجابة على بعض الأسئلة لكشف الخدعة برمّتها، فما هو الإرهاب؟ وهل هو فعلاً موجود؟ وأين؟ ومن الذي يمكن لنا تسميته بالإرهابي؟ نحن على يقين بأن هذه الأسئلة لن تلقى أجوبتها الحقيقية إذا ما طرحت على من صدّر الخدعة ومن يتواطأ معه في حين لا مجال لطرحها على سواهم، خاصة وأن غيمة التعتيم الإعلامي على المسلمين والعرب لا تزال موجودة مع غياب هواءٍ مقاومٍ يقتلعها من الجذور. وإلى حين وجود المؤسسات الإعلامية والدعاية الإعلامية والجمعيات الإسلامية العربية الناشطة القادرة على المواجهة سيبقى المسلم والعربي تحت نير المعاناة في بلدان الحادي عشر من سبتمبر.