أبو حسن
القرية على فوهة بركان، والدخان يبدو من بعيد، يصعد من كل مكان فيها، وكان الظلام لما يغمرها بعد، فبدت غارقة في سراب الظلام، وعلى الطريق الضيقة، التي تصل القرية شبه النائية والمعزولة، كانت السيارة تخب في منعرجاتها وبين حفرها، الحفر التي نثرتها انفجارات القذائف طوال السنين الماضية. كنت أحاول الإسراع ما استطعت.. من يدري لعلهم صاروا بين المنازل لكنني سمعت في الراديو أن تقدم العدو لم يتجاوز التلّة المقابلة، عسى أن يكون ذلك صحيحاً. في البعيد، نحو الشرق، بدت ثلاث قذائف تنفجر بين المنازل، واحدة سقطت قرب المسجد، أخرى لعلها أصابت منـزل أبي أحمد.. لا لم يدخلوها، لو أنهم في الداخل لما قصفوه بالمدفعية، لقد صمد الشباب إلى الآن، إنهم رجال يندر وجودهم في مثل هذه الأيام الصعبة..
أصبحت على مقربة من القرية يفصلني عنها طريق لا منعطفات فيه فأطلقت السيارة بأقصى سرعتها، فلا بد أن أصل الآن.. الآن.. كل دقيقة تمر قد تعادل العمر كله. إلى جانبي،كانت البندقية على المقعد، وإلى أسفل المقعد كانت الجعبة وفيها أربعة مخازن رصاص، ليتها تكفي، سيكون الشباب، خلال ساعات المواجهة، قد أفرغوا ما بحوزتهم من الرصاص والقنابل.. سمعت موسيقى نبأ عاجل من الراديو، فرفعت الصوت: "المواجهات لا تزال مستمرة بين المجاهدين والقوة الصهيونية المتقدمة، ومدافع الإحتلال تقصف القرية الثكلى بكثافة، والإصابات عديدة بين جنود القوة، وارتفع ثلاثة شهداء للمقاومة".
أوقفت السيارة قرب أول منـزل، وكان الضباب الصباحي الشفيف يختلط بالدخان ورائحة البارود التي توزّعتها الرياح، لففت الجعبة حول خاصرتي، حملت البندقية وهرعت إلى منـزلنا ألتفت يساراً ويميناً أبحث عن أيما أحد، صديق أو عدو، بين صفير القذائف والإنفجارات وأزيز الرصاص الذي يملأ هواء الزواريب والساحات الصغيرة. أبصرت، وسط ذهول القرية، وجوه بعض النسوة تطل بحذر من وراء النوافذ وتنخفض مع كل انفجار، ورأيت طفلاً يفتح باب داره ويهرول راكضاً وتتبعه أمه وهي تصيح وتولول. كانت العيون كأنها تنظر إلى البعيد المجهول. تابعت السير تحت الشمس التي كانت قد بدأت تطل تبدد الضباب، في حين كانت القذائف تسقط على خراج البلدة، وبين المنازل، ثم سقطت قذيفة على مئذنة المسجد، وفي آخر الزقاق أمامي أبصرت ملالة محترقة للعدو وخلفها سيارة عسكرية صغيرة لا تزال النار مشتعلة بها، وكانت رؤوس الجثث السوداء تطل من نافذتها مصدرة رائحة غريبة. وإلى اليسار، كان منـزل أبي أحمد يحترق وكانت قد أصابت إحدى غرفه قذيفة دمرتها بالكامل، وإلى جانبه كان باب دارنا مفتوحاً، وقد اخترقته عدة رصاصات وعبقت في جوه رائحة البارود، وكان المنـزل غارقاً في الصمت وخالياً، دخلت إحدى الغرف فأبصرت أمي واضعة رأسها بين ركبتيها، جالسة،تبكي بمرارة، عند زاوية الغرفة، ولما اقتربت منها لم تنظر إليّ، إلى أن قلت:
أين أبي.. أين أخوتي. أبوك.. حمل سلاحه ولحق بمحمد وعلي.. إلى أين؟.. أين هم؟قولي؟ لا أدري كان جنود الإحتلال عند أشجار الصنوبر.. أللهم دمر عليهم، يا الله. هرعت نحو باب الدار، وإذا بأمي، وبكل قوة، تمسك بي بكلتي يديها، وتنتحب قائلة: لا تذهب.. لم يبق أحد في المنـزل.. لم يبق أحد.. لا تذهب. لم أجرؤ على النظر في عينيها، ودفعت يديها عني، ومضيت قائلاً: تركتك بأمان الله. طفقت أركض حتى ابتعدت عن المنازل، وكان اللّهاث يصعد إلى جبيني ويرهق رئتي، فأخذت نفساً عميقاً فشعرت بالهواء البارد يتسرب إلى صدري، تابعت السير، فأصبحت أشجار الصنوبر مقابلي في أسفل الوادي الذي كان بعض الظلام لا يزال يغمره، وكان صوت الرشاشات وانفجارات القنابل اليدوية وصرخات الله أكبر تضج بصداها بين التلال والوديان، وأبصرت في أعلى التلة المقابلة، من خلال الأشجار، بعض شرارات النار.. إنهم الصهاينة.. لقد تراجعوا. عدوت بين نباتات البلان، وتقافزت قدماي على الصخور وقبعت خلف إحداها لأطلق ما كان معي من الرصاص لعل بعضها يصيبهم.. على الأقل ستزداد نيراننا كثافة، ورحت أطلق النار نحو التلة المقابلة حيث كانت تنطلق رشاشات جنود العدو، ولما سكت الرشاش بدلت مخزن الرصاص وتابعت إطلاق النار، فأحسست بحديد الرشاش ملتهباً بين يدي، لكنهم لم يطلقوا باتجاهي النار، إنهم مشغولون عني.. أنهيت رصاصاتي وبدلت المخزن.. ثم أكملت طريقي عدواً باتجاه الوادي ولما صرت بالأسفل كانت شجرات الصنوبر العالية قد غدت بعيدة عني بعشرات أمتار قليلة، عدوت بكل ما تبقى فيّ من قوة، حتى وصلت منطقة خالية من الأشجار في ذلك القعر، فسمعت، لما توقفت لأستجمع اللهاث، صوت رشاش ضخم ثم تبعه هدير مروحيات، وفجأة زاغت عيناي بانفجار قريب له دوي قنبلة، فأسرعت مبتعداً عن القعر ورحت أركض بين شجيرات السفح المتراصة، فيما كانت المروحيات تبتعد ثم تدنو دون أن يتوقف هدير رشاشاتها، ولما ابتعدت المروحيات منسحبة من ساحة المعركة، سمعت، ومن داخل الحرش، أنيناً خافتاً تسرب من بين حفيف الشجر:
يا علي.. يا زهراء.. يا أبا عبد الله.. يا حسين. سرت رعشة في بدني وتجمدت في مكاني، إن هذا الصوت مألوف، إنه محمد.. إنه محمد.. نظرت بين الأشجار حيث تناهى الصوت الخافت فرأيت، على بعد أمتار، جثة محمد هامدة وقد اخترقت جبينه رصاصة وشفتاه الداميتان تعلوهما ابتسامتة المعهودة، اقتربت بخطوات سريعة ذاهلة ولما صرت قربه سمعت الصوت من جديد.. لعله علي.. نظرت حولي فلم أر أحداً.. وسمعت أنة وزفرة تصعد من نباتات البلان، وظلت القذائف تتساقط لتنفجر في كل مكان، ناشرة شظاياها على الأغصان، لكني غفلت عنها وركضت باتجاه الصوت، فأبصرت والدي مرمياً بين نباتات البلان وقد مزق الرصاص جسده والبندقية على صدره، جثوت والدموع تجري في انكماش أعصابي، ووضعت يدي على يده ففتح عينيه. ولدي حسن..أنا راحل..لا تبق هنا..إلحق بأخيك. وأغمض عينيه، ولما التفتُّ انطلقت زخات الرصاص فوق رأسي و أبصرت أمامي، على بعد عشرين مترا ً خمسة من جنود العدو يطلقون النار في كل اتجاه، و سمعت صرخة الله أكبر، ثم رأيت علياً يركض نحوهم ويصليهم بنار رشاشه، فركضت خلفه وأطلقت النار على أحدهم فسقط وعلا صراخه، وضغطت بسبابتي على الزناد ضغطة واحدة، نظرت إلى علي فرأيته يسقط مصاباً، ووقفت على صخرة صغيرة فرأيت جندياً يهرول راكضاً فأطلقت نحوه زخة من الرصاص.. فجندلته، وعدت إلى علي.. كانت شفتاه تتحركان، فاقتربت بأذني من فيه فسمعته يقول: يا نفس من بعد الحسين هوني.. وارتسمت على شفتيه الابتسامة نفسها، وشعرت بدموعي تسيل على خدي، في تلك اللحظة توقف صوت الرشاشات فوضعت رأسي على صدره، وخرجت من فمي كلمات: يا زينب، يا زينب، يا زينب.. مسحت دموعي ومسحت وجهي بدماء علي ووالدي ومحمد، ومددت يدي أسفل جثة علي ورفعته، لقد كان دوماً خفيف الوزن ضعيف الجسد، وضعته على منكبي، ومشيت به حتى وصلت إلى والدي، وضعته بقربه، ثم ذهبت نحو محمد الذي كان مستنداً بظهره إلى شجرة صنوبر تضمخت بدمه، وجلست عنده وأخذت يده وقبلتها، وانتزعت منه بندقيته، وأخذته إلى والده وأخيه.
وفجأة دوى انفجار قنبلة تبعته زخات رصاص متبادلة، فتركتهم ورحت باتجاه الصوت، على بعد عشرين متراً كانت المواجهات قد تجددت، فتقدمت حتى صرت بين الشباب، كان أبو حسن محمر الوجه مرهقاً يطلق النار يساراً ثم يميناً ثم يأخذ قنبلة من كيس بجانبه ويرميها باتجاه جنود الاحتلال، فيبادلونه بزخات رصاص كثيفة، ثم رأيت حسان وجهاد وجعفر يحاولون الرد على النيران، جثوت وتقدمت منخفض الظهر نحو ساحة المعركة، كان الصهاينة في الأعلى بأعداد كبيرة، على بعد أمتار قليلة، ولما وجدت صخرة صغيرة تقدمت نحوها ومن خلفها رحت أراقب مكامن إطلاق النار وأسدد إلى أحدهم وأطلق زخة من الرصاص ثم أبحث عن مكان آخر وأطلق زخة أخرى، ووسط حماوة المعركة، سمعت صوت الطائرات يخالطه صوت المروحيات، لحظة ودوى انفجار هائل أسفل التلة تبعه هدير الطائرات الحربية، ثم وصلت مروحيتان وراحتا تصبان الحمم على الوادي وسقطت بعض نيرانهما بيننا، فيما سكتت رشاشات القوة المتقدمة، إنهم ينسحبون، وانخفضت مروحية حتى أبصرت راكبها، وراحت ترمينا بنيران رشاشها الضخم. قبل أن يأفل ذلك النهار، كنا قد نقلنا جثث الشهداء إلى المغسل المجانب للمسجد، وأديت الصلاة في المسجد الحزين وسط أنوار المصابيح الغريقة، وبعد الصلاة، تلوت صفحات من القرآن، ودعاءً صغيراً أهديتهما للشهداء، ثم دلفت، تحملني رجلاي على مضض، إلى المنـزل، حيث كانت تلك الأرملة الثكلى الأربعينية تقبع وحيدة.