مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

جعبة مقاوم‏: بيت العجوز

أبو حسن‏

 



كان البيت الصغير يرتمي عند أسفل القرية الموزعة على تلة غير عالية، وقد تلفع ببضع شجيرات ليمون كامدة. كنا نمضي بين يوم وآخر مارين بالساحة وكنا نتشبث بالأشجار المتناثرة على جنبات الطريق لندلف نحو زقاق منحدر مفروشٍ بالحصى وعلى جانبيه ارتصفت بيوت قديمة من الحجر وقد تدلت من سقوفها أنواع العرائش المزهرة، وحين ينتهي الزقاق يتصل بدرب ترابية شديدة الإنحدار. كنا نصل باب الدار فنحني رؤوسنا لندخله، وكانت العجوز التي أحنت ظهرها السنون تستقبلنا بوجه لم يعد فيه مكان لابتسام. كانت في وحدتها أمام مدفأة صغيرة مع إطلالة الخريف الباكرة، وتحت سيل ظلال الأشجار المتدفقة عبر النافذة، كأنما قد توقف الزمن في قلبها.

كانت بلا أولاد أو معين أو معيل، تغمرها الوحدة في وادٍ تصفر فيه رياح الغربة، رغم أن القرية كانت في تلك الأيام تعج بساكنيها. أما قُوتها فيأتي من بقعة أرض صغيرة زُرعت فيها بعض الخضار والبطاطا، وما يجود به أحدهم. كان محمد يصطحبني، حاملاً قليلاً من اللحم وبضع وريقات نقدية، لنمضي بضع دقائق في عالم مرهق بالفقر والوحشة، بعيد عن الضوضاء، متدثر بالحزن بين أكناف القدر. عجل محمد ليصطحبني لزيارة العجوز وكان في يده كيس كبير من اللحم. فتحت الباب لنا بظهرها المحني دوماً، ثم راحت واستلقت على سرير حديدي بالٍ، كان الوهن يدب في جسدها يوماً بعد يوم، وكان البساط الرقيق الذي يغطي أرض دارها الصغيرة لا يجدي شيئاً في تخفيف برودتها. خرجت من الباب: أنا بانتظارك في الخارج. ها أنا قادم. أعطيتها كل مالي... هكذا قال لي عندما كنا عائدين... لعل مزيداً من المال سيأتيه، لكن من أين له هذا الفقير دوماً وأبداً...كل شي‏ء ممكن في هذه الأيام القاحلة... لست أدري. كنت أفكر فيما فعله، وعندما التفتُّ إليه علني أرى بين عينيه جواباً ما، بدد تلاقي نظراتنا كل أفكاري. مساء ذلك اليوم زارني محمد ثانية، وقف بالباب وقال: لدينا عمل مستعجل... الصهاينة يتقدمون عبر الوادي. سأرتدي بذلتي وآتي. مشينا على حذر، ورحنا نقطع ذلك الزقاق. كان مدد الرفاق سيوافينا في الطريق، لكن إصراره على استباق وصول الجنود إلى القرية دفعني للحاق به، وإن على مضض... كانت علامات الهدوء بادية في مشيته... اقتربنا من منزل العجوز، فافترق محمد عن الطريق وقصد منزلها:

إلى أين أنت ذاهب؟... هه، ماذا تفعل؟ وهل هذا وقته؟ إن لم يكن الآن فمتى؟ انتظرته أتلفت يميناً ويساراً، أرقب الأشجار وانحدار الطريق الضيق نحو الوادي، وتحسست برودة البندقية بين قبضتي، فيما كانت رياح الخريف الباردة تسري بين الكروم والبساتين... لماذا الآن يا محمد؟ هه... لماذا الآن؟ وما الذي تخشى فوته؟ لعله يخاف عليها من صوت الرصاص... بعد دقائق، خرج محمد ومضينا، كان يتقدمني عدة أمتار، يمشي خطوات ثم يتلفت موجهاً بندقيته نحو اليمين أو الشمال. كانت الطريق تمتد أمامنا تقطع الوادي، تحيطها كروم تين من الجانبين، كانت تبدو أشبه بنفق معتم، ولم يخدش الصمت سوى وقع أقدامنا على الحصى، وسوى بعض نسمات أيلول تهدهد أغصان التين الخاوية. أشار محمد بيده، فجثوت على الأرض متطلعاً إلى الأشجار والتلال المحيطة، منصتاً كلما هدأ النسيم... لعله سمع صوتاً أو رأى شيئاً، لكن الظلام يغشو البصر. قام ومشينا خطوة واحدة... ثم سمعنا وقع أقدام في كرم التين، إنه رجل واحد... جثونا ووجهنا البنادق... إنهم كثر، تجدد الصوت، إنه وقع أقدام عشرين رجلاً على الأقل... يا أبا عبد اللَّه... يا أبا الفضل العباس... لم يأتِ المدد بعد، كانوا يتجهون نحو القرية صعوداً... لم يرونا بعد... أشار محمد بيده بالإنتظار، ولما ابتعدوا اقترب مني هامساً: سننتظر حتى يأتي المدد، ثم نوقعهم في حصار من الجانبين. فكرة سديدة... ولكن علينا أن لا ندعهم يبتعدون عنا... لنلحق بهم على مهل. سمعتهم يتحدثون، وعبثاً حاولت إخفاء قرقعة الحصى تحت قدمي... لن يسمعوا شيئاً في ضجتهم تلك... لحقنا بهم واتصل محمد عبر اللاسلكي: إننا نلحق بهم... يتقدمون إلى منزل العجوز... سنحاصرهم... فاجئوهم من الأعلى... لا تدعوهم يفلتوا منكم... دوى انفجار قنبلة وسمعنا الشظايا توشوش على أغصان التين، إنهم الرفاق... قال محمد، هرولنا تحت زخات الرصاص المتبادلة حتى أصبح الجنود تحت مرمى النظر والنيران، وبدأنا نطلق النار، سقط جندي ثم آخر وعلت صرخاتهم. ألقيت قنبلة يدوية انفجرت تضي‏ء الليل فرأيت الناجين يختبئون بين جذوع الشجر، كانوا على بعد عشرة أمتار... جندلت واحداً آخر، وكان محمد منبطحاً على الأرض يطلق النار عليهم، كان الرفاق في الأعلى قد تقدموا حتى غدوا بين الجنود يتصيدونهم واحداً إثر آخر. رأيت أبا حسن يصاب بقدمه ويسقط، وفي تلك اللحظة، ووسط الاشتباك المحموم، أحسست بقدمي تتخدر... هل أصبت... لا... لا... أطلقت النار على الجندي الذي كان قد تسلل إلى جانبي مختبئاً خلف شجرة كبيرة:
محمد... انتبه... إنهم يلتفون علينا...


أحسست بعجز قدمي عن الاستمرار واقفاً، وكان الدوار يضج في رأسي محدثاً طنيناً حاداً... سقطت كالمغشي عليه... لكني حاولت أن أراهم وهم يلتفون. انبطحت على الأرض، كان الغبش في عيني يمنعني من الرؤية، وكانت قدمي كأنها في لجة نار ملتهبة. كان محمد مستلقياً على سرير بجانبي تحت تأثير المخدر، وكان الطبيب الجراح ينزع من كتفه رصاصة كتلك التي كانت في قدمي، أبصرتها على الطاولة بجانبي سوداء ملطخة بالدم، وبعد قليل بدأت أشعر بآلام مبرحة في قدمي. جاء قائد مجموعتنا: كيف حالك... قال وهو يقبلني في جبيني... جيد، ولكني بدأت أشعر بالآلام. أشكر اللَّه أنك عدت... لقد تقدمت مجموعة خلفية للعدو. أبو حسن، ما أخباره. إنه عند الحسين عليه السلام الآن... لقد حقق مراده... امتلأ جسده بشظايا قنبلة يدوية سقطت بين قدميه. عندما التأمت الجروح، خرجنا من المستشفى معاً، ومعاً دلفنا في ذلك الزقاق، وكان محمد يحمل كيساً.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع