الشيخ مصطفى قصير(*)
"الإنسان اجتماعي بالطبع" كما يقولون... ولا شك أن الحياة الاجتماعية ضرورة ملحّة لتحقيق الكثير من الأهداف التي يعجز الإنسان عن تحقيقها بمفرده ولوحده، إلا أنه قد يتولد عن العلاقات الاجتماعية جملة من المفاسد والتجاوزات تتطلب معالجتها من قبل المفكّرين والعلماء والقادة، عبر برامج تربوية وأنظمة وقوانين وإجراءات تحدّ من تفاقمها. فيما يلي نعرض لأبرز أنواع المفاسد الاجتماعية، والطرق الإيجابية لمعالجتها.
* أنواع المفاسد الاجتماعية
المفاسد الاجتماعية هي الممارسات والتصرفات والعادات التي تنشأ عن العلاقات الاجتماعية وعن الاشتراك في العيش في إطارٍ ما، وتؤثر سلباً على مسيرة المجتمع وحركته نحو الأهداف السامية التي حدّدها البارئ عزَّ وجلَّ وجعلها غاية لخلق البشر. وهي على أنواع:
- أولاً: المفاسد الاجتماعية ذات الصلة بالحقوق المعنوية للمجتمع والأفراد الذين يتكوّن منهم المجتمع. ومن هذه الحقوق: الحرية، الكرامة، الشعور بالأمن، وحفظ الخصوصيات الشخصية للفرد والمجتمع... إلخ. هذه الحقوق تتعرض للتعدي والتجاوز، وقد لا تعطى الأولوية في المعالجة عادة، رغم أنها تحتل أهمية كبرى في المنظومة الأخلاقية والتربوية للشرائع السماوية، وتتناولها بكم هائل من النصوص التوجيهية، تزخر بها الموسوعات الحديثية. في هذا المجال تضمن الشريعة الإسلامية حرية الإنسان، ففي حديث علي عليه السلام: "لا تكونن عبد غيرك وقد جعلك اللَّه سبحانه حراً"، وهي قاعدة تؤسس لرفض عبودية الإنسان للإنسان "شر الناس من باع الناس" كما عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله. ولا نقصد طبعاً بالحرية أن يتحرر الإنسان من العبودية للَّه، فهو أمر غير ممكن، فالمخلوق لا يمكنه الخروج الحقيقي عن سلطان الخالق، وإن توهم نفسه قادراً على ذلك بفضل المساحة الممنوحة له من قبل خالقه وفق ما تقضيه مسألة التكليف والامتحان والاختبار. ويجب الإشارة إلى أن الحرية لا تعني الإذن بالتمرد على القوانين والأنظمة الشرعية أو الاجتماعية، فالحرية دائماً لها مساحة لا تتجاوز حقوق الآخرين وحريتهم، ومن هنا تنشأ المشكلة حيث يبادر البعض إلى توسيع دائرة الحرية لنفسه فيضيق حرية غيره أو يصادرها وربما صادر حرية المجتمع بكامله. أما الكرامة فهي حق معنوي آخر له أهميته الكبرى، فقد يجد الإنسان أن حفظ الكرامة أهم من الطعام والشراب، بل قد يفضل الموت بكرامة على الحياة مع الذل ولو توفر له فيها كل ما لذّ وطاب. وهذا أصل تلتزم به الأديان بما فيها الدين الإسلامي. ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "إن اللَّه عزَّ وجلَّ فوّض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوّض إليه أن يذلّ نفسه". وإذا كان من غير المسوّغ أن يذلّ نفسه، وأن يرضى لها الذل، فمن باب أولى أن لا يكون التعدي على كرامة الغير وإذلاله مسموحاً وجائزاً في عين الشريعة. ويأتي في سياق الحفاظ على خصوصيات الأشخاص والجماعات النهي عن الغيبة، باعتبارها تشوّه صورة المغتاب وتخدش شخصيته في أعين الآخرين، وتساهم في إسقاطه والحد من صلاحيته كعنصر فاعل في كيان المجتمع الذي يراد له أن يكون متماسكاً متكافلاً متعاوناً "كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى".
- ثانياً: المفاسد الاجتماعية ذات الصلة بالحقوق المادية: كالظلم والاحتكار والتعدي على الأموال وإغلاق أبواب الكسب المباح، وحجب الحقوق. ولعل الكثير من الحالات التي ينتج عنها التمركز الكبير في الموارد المادية عند أفراد أو جماعات تعود إلى اعتماد الأساليب غير المشروعة، وتجاوز حقوق الأفراد والجماعات، واحتكار الإمكانيات والفرص، واستخدام القوة في منع الآخرين من الوصول إلى ما من حقهم الوصول إليه. "فما جاع فقير إلا بما متّع به غني". ومن المؤسف أن بعض التعديات المادية على حقوق الآخرين تتخذ شكلاً مقنناً ومعترفاً به في عدد من الدول والأنظمة المعاصرة، أو تأتي نتيجة ضعف السلطات أو خيانتها في معظم الدول الأخرى. وقد حرّمت الشريعة الإسلامية "الحكرة" في الطعام لأنه يضر بالناس، مما يعني أن حق الناس بالحصول على ضروريات المعيشة أمر يجب رعايته ويحرم التعدي عليه، ولذا يلزم المحتكر بعرض الطعام للبيع.
- ثالثاً: المفاسد الاجتماعية ذات الصلة بالغرائز الجنسية: وهي كثيرة الانتشار، تنشأ من الاختلاط السلبي، والعلاقات الاجتماعية المتحللة من القيود الأخلاقية والضوابط الشرعية، مما يؤدي إلى التمادي في الاستجابة لنداء الغريزة، وربما الانجرار إلى حالات الشذوذ الجنسي، وتغليب البعد الحيواني على حساب البعد الإنساني. وقد يلجأ دعاة الإباحية والتحلل من القيود الجنسية إلى الترويج لهذا النوع من المفاسد عبر إدخاله في دائرة الحريات الفردية وسلطة الإنسان على نفسه، متناسين تماماً أن الإنسان مملوك لخالقه ليس له أن يستخدم سلطته في الإضرار بنفسه وإرضاء شهواته على حساب ملكاته الروحية والعقلية، وليس له أن يتمرد على ما رسمه له الخالق والمالك من حدود شرعية وأخلاقية، فضلاً عن مساهمته في إفساد الذوق العام والبيئة الاجتماعية.
* العلاجات الايجابية للمفاسد الاجتماعية:
لن أتناول بالعرض أدوات الردع ووسائل العقاب التي يُلجأ إليها عادة للحدّ من انتشار المفاسد، وإن كانت تحتلّ موقعها في الشرائع السماوية والأنظمة الوضعية على حدٍ سواء، لكني أشعر بضرورة تنمية وتطوير الوسائل التربوية الإيجابية التي تكسب الإنسان منعة ذاتية وارتداعاً إرادياً، ففي عالم التربية يُقدّم هذا النوع من العلاجات على النوع الأول في الأهمية، ورغم ذلك يسرع المربّون عادةً إلى استخدام النوع الأول لأنه أسهل تناولاً، ولأن أساليبه تحدث ردعاً فورياً مما يوهم أنها أوصلت إلى الهدف بيسر وفعالية، لكن الدقة والتأمّل يكشفان أن الارتداع الآتي نتيجة الخوف من العقاب سرعان ما يرتفع عند ارتفاع أسبابه، فيستمر الارتداع باستمرار الرادع وعند بقاء الخوف، فإذا غاب الرادع وزال الخوف أو ضعف تأثيره أو تمكن المستهدف من التهرب منه والتمرد عليه عاد من حيث بدأ، على خلاف الوسائل الايجابية التي تستهدف إكساب الإنسان ملكة الصلاح والفضيلة، والامتناع عن المفاسد الاجتماعية ذاتياً حتى في غياب الرقيب والأمن من العقاب. لذا، نجد الإسلام يعمل في تشريعاته على الخطين معاً ويولي الوسائل التربوية الايجابية الاهتمام الأكبر، ويقنّن في الوقت ذاته الحدود والتعزيرات لردع الحالات التي لا تستجيب للعلاجات الايجابية.
* كيف يعمل الإسلام على معالجة المفاسد الاجتماعية بالطرق الايجابية؟
- أولاً: لا بدّ من بناء القاعدة الفكرية والعقائدية، وربط الحياة الدنيوية التي يعيشها الإنسان بالمبدأ من جهة والمعاد من جهة أخرى لتكون مرحلة في سياق متّصل بما قبلها وبما بعدها، وعندئذٍ يجد العاقل أنه لا محيص عن التعاطي مع تفاصيل الحياة الدنيا وما فيها من متع وشهوات ونعم وملذّات وما يشوبها من بلاءات ومصائب وغموم ومصاعب باعتبارها حالة برزخية مؤقتة ومرحلة عابرة تؤسس لما بعدها، مما يفرض عدم الاستغراق في لذّاتها بما يضرّ بحياته الأخرى، وعدم الجزع لهمومها وبلاءاتها، بل يؤخذ منها بالقدر الذي لا يتعارض مع ما بعدها من مراحل وما ينتظر من مصير، وفي المقابل يجب الصبر والتحمّل لأن الفرج آتٍ لا محالة. هذا المحور هو الأساس في العلاج الإيجابي للمفاسد من وجهة نظر الدين الإسلامي، وهو أساس التغيير الجذري، وعلى ضوئه يتمايز الناس في أدائهم وسلوكهم، فأهل الدنيا يعملون من أجلها ويحرصون على استنفاد كل ما بوسعهم للفوز بلذّاتها ولا يحسبون لآخرتهم حساباً، بينما في المقابل أهل الإيمان بالآخرة يتعاملون معها بطريقة أخرى.
- ثانياً: القيم الإنسانية والاجتماعية:
يجب العمل على زرع القيم وتجذيرها، وذلك لأن القيم الراسخة في النفوس تحدث منعة ذاتية في مواجهة المفاسد، فعندما تهفو النفس لممارسة رذيلة أو الحصول على لذة رخيصة، تعمل قيم الفضيلة على ردع النفس وتمسك بزمامها، وعندما يهم الإنسان بتجاوز حدود الآخرين والتعدي على حقوقهم، تتحرك قيمة العدالة في النفس إذا كانت قوية لتقف في وجهه وتحول دونه وما يريد. لكن العبرة في السبل والبرامج التي من شأنها أن تساعد على ترسيخ القيم وتجذيرها، وهنا بيت القصيد، فنحن ندعو الآخرين إلى الالتزام بالفضيلة، وقد لا نلتزم بها مما يفقد سعينا التأثير المطلوب والمرتجى. القيم لا تنشر بالتعليم ولا بالمحاضرات، وإنما تحتاج إلى عمل دؤوب وتربية مبكرة ومتواصلة ومستمرة. أحياناً ندرّب أبناءنا على الكذب من حيث لا نقصد، وذلك عندما يسمعوننا نكذب عليهم أو على الآخرين، وندرّبهم على عدم احترام حقوق الآخرين من خلال تجاوزاتنا للحقوق المادية والمعنوية. وفي المقابل، ندرّب أبناءنا على حفظ النظام عندما يرون ذلك منا بشكل دائم وثابت وفي أصعب الظروف، وندرّبهم على الصدق عندما نمتنع عن الكذب في أحرج المواقف، وندرّبهم على احترام الكبير والعطف على الصغير ومساعدة ذوي الحاجات والوفاء بالوعد والاعتراف بالجميل و... إلخ من خلال سلوكنا وممارساتنا بشرط أن تكون دائمة ومستمرة وفي السرّاء والضرّاء. ولذلك ورد الحث على الدعوة إلى اللَّه من خلال العمل والسلوك "كونوا دعاة الناس بغير ألسنتكم"، "وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه"، فتأثير السيرة والسلوك العملي كبير جداً لأنه يقدّم المثال الحسن والقدوة، ولذا بعث اللَّه الأنبياء والرسل إلى الناس ولم يكتف بإنزال الكتب والاعتماد على العقل، لأن النبي يمثّل القدوة والأسوة، ولأنه يثبت للناس الإمكانية العملية لتطبيق كل توجيهات الشريعة وقيمها وأخلاقياتها من خلال المثال الفعلي القائم. وما ينبغي التأكيد عليه أن عملية التغيير تبدأ بفرد، وعليه، فليس مبرراً على الإطلاق أن ينتظر الشخص غيره، فلو توقف الإصلاح والتغيير على توفّر جماعة تلتزم بذلك لما أمكن الانطلاق به على الإطلاق، لكن إذا بادر البعض أمكن توفير الجماعة وازداد بهم التأثير وتسارعت وتيرة الإصلاح والتغيير.
- ثالثاً: معالجة الظواهر السلبية في المجتمع بالوسائل الايجابية:
من المسلّم به أن المجتمع الملتزم والمتديّن لن يكون سدّاً منيعاً أمام حصول بعض الظوهر السلبية من الفساد الاجتماعي، ولذلك توضع عادة أنظمة العقوبات، إلا أنه من الضروري اعتماد وسائل العلاج الجذري للظواهر وذلك عبر دراسة الأسباب والدوافع ومعالجتها، وعدم الاتكال على أجهزة القضاء والرقابة. فالقضاة عندما يعالجون أي مشكلة فهم يتناولونها من الزاوية الجزائية بقطع النظر عن الآثار الاجتماعية والأبعاد الإنسانية التي ترافق الأحكام، وهو أمر على أهميته لا يكفي لمن يريد أن يعالج المفاسد ويجتثها من جذورها، مما يفرض على التربويين والمعالجين الاجتماعيين والمبلّغين أن يضعوا برامج خاصة لكل حالات التورط لإنقاذها والحيلولة دون انتشار العدوى إلى غيرهم من عناصر المجتمع.
- رابعاً: يعتمد الإسلام بعض الإجراءات الوقائية، التي تحول دون حصول المشكلة، وهي إجراءات تنطلق من ضرورة توخي الحذر عندما يكون هناك أي خطر محتمل، من قبيل الحدّ من الاختلاط، والفصل بين الأطفال في المضاجع عند عمر عشر سنوات فصاعداً، وإزالة عوامل الإثارة الجنسية، واعتماد وسائل أمينة للحيلولة دون قيام من تسول له نفسه بما يريد من تعدٍّ على الحقوق، كما في الحث على كتابة العقود والديون والإشهاد وأخذ الرهان وغير ذلك من إجراءات تقلّل من فرص التجاوز. فالمثل السائد يقول: "المال السائب يعلّم الناس السرقة"، وهذا باب واسع جداً، فلعل الكثير الكثير من حالات الخلاف المالية والتجارية وما يحصل بين الشركاء سببه عدم الوضوح في تفاصيل العقود والاتفاقات أو عدم توثيق ما اتفق عليه، مما يفتح الباب أمام الشيطان وما تسوّل له النفس الأمّارة بالسوء).
(*) المدير العام للمؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم.