نسرين إدريس
أقمارٌ سجدت لأقدامهم الأرض
أبطال كمين مرجعيون الاستشهادي 1994/12/ 10
فادي بطش (أبو علي المقاومة)/ بيروت 1972
محمود الحاج علي (أبو علي فريد)/ النبطية 1973
حسين مهنا (حيدر)/ مارون الراس 1974
هاني طه (ياسر)/ ميس الجبل1975
لم يكن ثمة زهور، فقد كان ثلجُ الشتاء رداء المكان، غير أن عبقاً من أريج الجنة فاح هناك، نضحته الريحُ، وخبأه التراب بين حبّاته ذكرى لأجمل حياة، لوريقاتِ الأقحوانة الأربع، التي تفتحت في زمن الصقيع، فأعطت للشتاء لون الحرية.. كانوا أربعة أقمار، سجدت الأرض تحت أقدامهم المزروعة في شرايينها، ووقعتِ النجوم بين أكفهم مصابيحَ تُسبح بين أصابعهم المحدّقة باللحظة الحاسمة لتضغط على الزناد.. كانوا أربعة رجال، فوارس جُبِلت أرواحهم بإكسير الحبّ الخالص للَّه، تعلقت قلوبهم بمحبوبٍ قدّموا أجسادهم فداءً له على مذبح العشق، وأبوا أن تكون تلك اللحظة التاريخية في حياتهم، إلا أن تكون مخاضاً لمرحلةٍ جديدة في تاريخ المقاومة الإسلامية، مرحلةٍ شكلّت منعطفاً خطيراً بالنسبة للعدو الصهيوني، الذي رأى على لسان قائد المنطقة الشمالية آنذاك عميرام ليفين أن "تنظيم حزب الله شهد عِدة نجاحات، وقد تمت دراستها، وفي كمين مرجعيون الذي تمّ من مسافة قصيرة جداً دفعنا ثمناً باهظاً".
في مكانٍ شكّل مثلث الموت للصهاينة، يبعد عن مركز قيادة العدو في مرجعيون حوالى 300 مترٍ، وعن منزل العميل انطوان لحد المسافة نفسها، وعن الحدود مع فلسطين المحتلة 3 كلم. على طريق مرجعيون حاصبيا، وبالقرب من مقبرة الفرنسيين، كان وصول مجاهدي المقاومة إلى هناك ونصب كمينٍ ، يؤكد على أن زمام المبادرة بأيديهم، وعلى الرغم من التفوق التسليحي للعدو الصهيوني، فإنه في خندق الدفاع عن النفس، فاقد للمبادرة بالهجوم، خصوصاً وأن القافلة المؤللة المستهدفة من الكمين، تابعة للواء غولاني، الذي يعدّ من أقوى قواته.
في الثالث من كانون الأول لعام 1994، أرسلتْ قيادة المقاومة الإسلامية دورية لرصد طريق مرجعيون حاصبيا ودراسة إمكانية تنفيذ الكمين في مقبرة الفرنسيين، ونظراً لبُعد المكان، واستبعاد إمكانية انسحاب المجاهدين الذين سينفذونه، ارتأت القيادة الحكيمة في المقاومة، والواثقة من الروح الجهادية العالية والنفس الحُسيني، تنفيذ كمين استشهادي يؤكد على قدرة المجاهدين في مواجهة الصهاينة عن قرب، الأمر الذي يعكس بوضوح الضعف والخور عند الجنود الإسرائيليين. لم يكن انتقاء الإخوة الذين ستوكل إليهم هذه المهمة بالأمر السهل، خصوصاً مع تواجد الكثيرين من الاستشهاديين الذين وضعوا أنفسهم تحت تصرف القيادة، وكل فردٍ منهم يصلي من أجل أن يتم انتقاؤه، فتمّ اختيار الأخوين حسين مهنا وعلي طه وهما من عديد القوة الخاصة، فيما تطوع الشهيد محمود الحاج علي المجاهد الذي رفع راية المقاومة على موقع الدبشة وشارك في العديد من العمليات العسكرية إضافة إلى مشاركته في الاستطلاع لمكان الكمين، والشهيد فادي بطش الذي يدل اسمه العسكري "أبو علي المقاومة" على تاريخه الجهادي الطويل. كان لا بدّ من إخضاع الإخوة الأربعة والمجموعة المساندة لهم للاختبار، فهكذا عمل يتطلب خبرة وتجربة ومعرفة بطبيعة الأرض والعدو، فالطريق طويلة وصعبة وإجراءات الدخول إلى منطقة الكمين وعرة جداً، ومن المحتمل أن تنكشف المجموعة قبل وصولها إلى الهدف، ما يعني أنهم قد يتعرضون للأسر. وإزاء جدية الموقف وقضاء ساعات قلِقة تحت أعين القيادة، والعمل على رفع روحيتهم العبادية التي تساهم بشكلٍ فعّال في ترسيخ العزيمة في قلوب المجاهدين، فقد سيطر عليهم، أيضاً، جو من المرح والضحك، ولعبوا مباريات في كرة الطاولة والمصارعة، وتشاركوا لحظات الفرح العارم لمشاركتهم في هذه العملية النوعية. تميزت أيامهم الأخيرة بعلاقة رائعة من الأخوة والصداقة المكللة بالمحبة والإيثار، وانتظروا اليوم الأخير ليشدوا حيازيمهم للشهادة، وليعيروا الله جماجمهم، وعلى اسم الله انطلقوا، تركوا خلفهم الأهل والأحبة بأمان الله، وفادي الذي كان يهيئ بيت الزوجية، طلب إلى اللَّه أن يكون في الجنة..
صقيعُ كانون تكسره تسبيحات الشفاه، والصمتُ يُعزفُ على أوتار الريحِ، وأقدامٌ تتركُ آثاراً عميقة حيث تمر لثقل ما تحمله الأيدي والطريق الوعرة طويلة، وعيون ترمقُ بعضها. كان الاخوة في عِداد المجموعة المرافقة والمساندة للاستشهاديين يغبطونهم على رحلتهم، وبعضهم استراح قلقه عند لحظة واحدة قد يتعبُ فيها استشهادي فيحلُ مكانه، ولكنّهم خففوا من تلك الحسرات، بأنهم يتمنون لبعضهم ما يتمنون لأنفسهم: "الشهادة". وصلت المجموعة إلى المكان المحدد بتاريخ 1994/12/9، وقضوا ليلتهم وهم يعدون الساعات، حتى إذا ما بلغت شمس النهار أعتاب الظهيرة، لاحت قافلة عسكرية صهيونية مؤلفة من سبع آليات آتية باتجاه مرجعيون. أبلغ الشهيد محمود الحاج علي القيادة أن "الرزقة قد وصلت"، وعند وصولها إلى نقطة المكمن أمطرها المجاهدون بنيران أسلحتهم الرشاشة والصاروخية ما أدى إلى احتراق جيب وقتل وجرح من بداخله وإصابة عدد آخر من الآليات، وقد استمر إطلاق النار حوالى الساعتين، ولشدة الذعر الذي أصاب الصهاينة، استطاع المجاهدون الانسحاب من المنطقة باتجاه الوادي المؤدي إلى سهل الخيام، حيث كمنوا هناك ودار اشتباك آخر مع العدو، فيما كانت مدفعية المقاومة تستهدف ثكنة مرجعيون وموقع الشريفي. وكعادته استقدم العدو تعزيزات من الملالات ودبابات الميركافا وطوقت المنطقة فيما كان الاشتباك في أوجه مع المجاهدين الذين استشهد ثلاثة منهم، وبقي أحدهم، فحاول الصهاينة أسره ومناداته بمكبر الصوت ليسلم نفسه، غير أنه ردّ عليهم بإطلاق النار، وبدأت الطائرات الحربية بالقيام بطلعات جوية في المنطقة، واستُقدِمتْ قوة مشاة لإغلاق خط الانسحاب الأخير أمام المجاهد الذي بقي حتى الرمق الأخير يقاتلهم بكل بسالة. اعترف العدو الصهيوني بالعملية التي أدت إلى مقتل ضابط وجندي متأثراً بجراحه في اليوم التالي، وجرح ثمانية آخرين. وقد وصفت القناة الثانية للتلفزيون الإسرائيلي العملية بـ"الحادث الصعب في جنوب لبنان، في داخل المنطقة الأكثر أمناً، وهذا أمر لم يحدث منذ بضع سنوات وهو يدلل على قدرة التسلل في العمق لدى (المخربين)". فيما قام قائد المنطقة الشمالية مع طاقم أركانه بالإشراف على التحقيقات الجارية والبحث في كيفية الرد على نجاحات حزب اللَّه في السنوات الأخيرة.
هدأت الريحُ، والجيش الصهيوني بطائراته وآلياته وجنوده وجيش عملائه يطوقون أرضاً حضنت أربعة رجال، حملوا حقيقة واحدة في حياتهم واستشهادهم، حقيقة عرفها العدو قبل الصديق: هو أن تلقي الضربات الموجعة من مجاهدي حزب الله، قدر لا يمكن الفرار منه، ومصير لا شيء يغيره سوى اضمحلال الأسطورة التي نعتها الإمام الخميني قدس سره بالغدة السرطانية "إسرائيل". سقط الرجال الأربعة شهداء، فانبجست من جراحاتهم العيون التي روت تراب مرجعيون العطشى للدماء الزكية، واستراحت جذور الأشجار الشامخة في الأرض التي زُرعتْ فيها أجساد أبطال كمين مرجعيون.