علي كريِّم
وتوقظه الشمس... ترسل من وراء المدى خيوط النور... ليستريح عند أعتابها ببسمة ملؤها الشوق... فيشتعل ضياء ما بين القلب والعين. يرمي بإحدى طرفيه"من قضى نحبه" وبالأخرى"من ينتظر"... وعند صباحات الضوء... تحمل الشمس حكاية حرية... تروي قصص الجهاد الذي لم يُهزم ولن يُقهر... طالما للَّه في أرضه رجال عشقوا السلاح وأسكنوا القلب منار الصباح... وأذُّنوا عند الفجر ليقيموا صلاة العودة... ووعد النصر في أعينهم سكناه المدى... مع الاستشهاديين تطول حكاياه ويأنس المرء لسرده، كيف لا وهو الذي اختير لتنفيذ عمليَّته الاستشهادية ولكن العلي القدير شاء أن يكون أسيراً في يد الأعداء قبل أدائها، لينتقل عندها إلى ساحة جهاد أخرى... هو ذا الأسير المحرر مصطفى عبد الكريم حمود.
* البداية:
في الرابع من شهر آب لعام 1970، وفي بلدة مركبا الجنوبية، كانت ولادته، ولم يكد يبلغ العقد الأول من عمره حتى رأى بأم العين حرمات أرضه تدنسها أقدام المحتلين الغزاة، ومعاناة الأهل وصعوبات الاحتلال ترسم في مخيلته طريق ذات الشوكة الممزوج بالطاعة الخالصة، ويدفعه إليه الحديث عن فلسطين، يسمعه من والده وتجربة أخيه السابقة له في المقاومة. وما أن ارتسمت ملامح القضية وعاشها بقلبه حتى عقد العزم للذود عن الحرمات فكانت البداية في العام 1982.
* العمل داخل الشريط المحتل:
مع انسحاب العدو من مدينة صور بدأ عمله ضمن نطاق الشريط المحتل كعميل مزدوج، وبالتحديد في بلدته مركبا والقرى المجاورة، ليعايش عن قرب حركات العدو وعملائه وسبل عمله في المنطقة المحتلة، فَيُفَرِّغُ للمقاومين كل ما في جعبته من معطيات، ليصبح مع الأيام عميلاً مخلصاً عند العدو ولكن عميت عيونهم فضلاً عن قلوبهم عن إدراك حقيقة ذاك الشاب الذي بات محطة لحركة المقاومين في الداخل، إذ يُؤمِّن لهم كل ما يحتاجونه من لوازم ومعلومات تسعفهم في تحركاتهم، لتحيل حياة المحتل جحيماً وتقلق جنوده حتى وهم متحصنون في دشمهم. سنوات ثلاث على تلك الحال، ولحظات تغمرها معاني الجهاد والفداء، تُصقل روحه بمراتب القرب والخلوص وصفاء القلب وصدق النية، ليقع الخيار عليه هو وثلة من المجاهدين لتنفيذ سلسلة من العمليات الاستشهادية ضد العدو في المنطقة المحتلة.
* الوقوع في الأسر:
بتاريخ التاسع عشر من آب لعام 1988 كانت عملية الشهيد هيثم دبوق الاستشهادية والتي انطلق لتنفيذها بعد أن بات ليلته عند مصطفى، الذي رافقه يومها إلى أقرب نقطة من مكان تنفيذ العملية، شاكراً اللَّه على توفيقه لأداء اليسير في مسيرة الدفاع عن الأرض. وبعد ذلك بشهرين، وتحديداً بتاريخ التاسع عشر من تشرين الأول كانت عملية الشهيد الحر العاملي الاستشهادية عند بوابة كفركلا الحدودية بالقافلة الصهيونية، والتي انتظراها مصطفى والاستشهادي لساعات بعد تأخرها عن موعد الوصول، فأتى بدل القافلة الواحدة اثنتان، ليترجَّل مصطفى حينها من السيارة (بيك آب) ويكمل الحر طريقه إلى حيث الثأر للمعذبين والمضطهدين، ويحيل بجسده الطاهر مواكب العدو إلى عصف مأكول، كل ذلك تحت مرأى ومسمع مصطفى. ولكن كانت مشيئة اللَّه حينها أن تراه إحدى العميلات في كفركلا وهو يترجل من سيارة الاستشهادي (بيك آب) فعاجلت بإبلاغ العملاء في تلك البلدة عنه ولم يكادوا يصدقونها اعتقاداً بأنه عميلٌ لهم بل ومعروف بالعمالة لدى أبناء المنطقة، لولا أنها أعطت المواصفات بدقة. لم تكن لتمر أربع ساعات على العملية، حيث عاد إلى مركبا لإبلاغ قيادة المقاومة عن تفاصيل العملية، حتى لحقت بمصطفى سيارات العملاء لاستطلاع حقيقة الأمر، وما إذا كان هو حقاً من رافق الاستشهادي قبل تنفيذ عمليته. ودون إرباك أو شعور بالخوف ولدفع الشكوك عنه، وقف مصطفى بصلابة الواثق بأنه ليس بوارد الشبهة في هذا المجال، ومع التأكيد لهم بأنه ذهب إلى كفركلا ليس لمرافقة الشهيد بل لشراء الزيت من المعصرة وهو فعلاً قد قام بذلك، وقد صادف أن رآه أحد العملاء في تلك البلدة صباحاً. عندها طلبوا منه الذهاب إلى المكتب، ولدرء الشبهة عن نفسه أجابهم مصطفى بأنه إذا كان الأمر يستوجب الحديث فلنذهب إلى البيت، لإشعارهم بالثقة الكاملة بأنه غير معني. ولكنهم حينها أصروا على الذهاب إلى المكتب وجاؤوا بالمرأة التي شاهدته وأكدت لهم بأنه هو الذي رافق الاستشهادي في سيارته (بيك آب) قبل تنفيذ العملية. ومنذ تلك اللحظة، أيقن الصهاينة بأنهم خُدعوا لسنوات من قبل مصطفى حمود بظنهم إياه واحداً من أخلص العملاء لهم ولكن اتضح لهم عكس ذلك تماماً، مع العلم بأن شقيق مصطفى كان يعمل مع المقاومة ويعرف العدو ذلك ولكنهم اعتقدوا أن مصطفى يختلف في توجهاته عن أخيه. لم تكن أولى لحظات الاعتقال حينها نقطة التحول في حياة مصطفى وهو الذي شعر بالتحديد قبل 22 يوماً بأنه سيقع في القيد ولم يكن شعوراً عادياً بل شبه يقين، مع العلم بأن قيادة المقاومة طلبت منه مغادرة البلدة على أثر العملية الاستشهادية إذا كان هناك من خطر يحيط به، ولكنه طمأنها إلى حاله وهو المدرك بأن ما يجري أو سيجري هو بعين اللَّه ورعايته.
* 16 عاماً في المعتقل:
في الوقت الذي كان الأسير مصطفى حمود يعد نفسه للعملية الاستشهادية التالية، إذ به أسيراً في يد العدو وداخل فلسطين المحتلة، لتبدأ رحلة السنوات الستة عشر والتي لم يشعر فيها سوى بالطمأنينة والسكون رغم قساوتها، فلقد بات أقرب في طاعته وعبادته للَّه، الذي وفَّقه لدرجات من الصبر إزاء ما واجهه من إهانات وحرمان وعزل عن باقي السجناء وضرب كان أوله كسر أنفه، وطالما أنه بعين اللَّه لم يبالي أو يضعف أو يوصل للعدو ما يريده. ما بين سجن"الجلمة" في حيفا وسجن"الرملة" حيث حُكم عليه حينها في محكمة "اللّد" العسكرية بعشرين سنة، وسجن"نفحا" الصحراوي وعسقلان، وبين الإفرادي والعزل والجمع مع بعض اللبنانيين وكثير من الفلسطينيين الذين منهم من غادر السجن قبله ومنهم معه ومنهم من بقي ولا يزال، قضى الأسير سنواته في أجمل محطات القرب من اللَّه سبحانه وتعالى، إذ هيأ له ساحة جهاد قلما يوفَّق لها البعض، فعرف كيف يوظِّف طاقته وهو داخل السجن لمواجهة العدو، فبين الإضراب لتحقيق المطالب، ومتابعة أخبار المقاومة لرفع معنويات الشعب الفلسطيني، والاستفادة من مناسبات ومحطات بارزة، كان دأب الأسير مع رفاقه ينصب عليها حتى اللحظات الأخيرة، إلى حين إنجاز عملية التبادل. وما أضاف إلى عزيمته وقوته قوة وصلابته صلابة، رؤيته للشهيد الاستشهادي الحر العاملي لمرات عدة في عالم الرؤيا، إذ كان يطمئنه ويعده دائماً باللقاء القريب والفرج العاجل.
* العودة:
مع إشراقة فجر التحرير في أيار من العام 2000، رسخ في قلبه يقين كامل بأن المقاومة التي استعادت الأرض بعزة وقوة ودون منَّة من أحد، سَتُخرج الأسرى بعزة وقوة ودون منَّة من أحد، وعلم بأن المقاومة كما أحسنت الصنع في استعادة الأرض، تعرف ماذا تفعل لاستعادة أسراها فكانت عملية أسر الجنود والعقيد، الأمر الذي انتظره. ومع العودة إلى أرض الوطن، أيقن بأن اللَّه قد ادخره لتأدية ذلك الواجب، وأن يعز الأمة به وبمن معه، كما أعزها من قبل بالشهداء والاستشهاديين العظام، الذين ما فتئ يذكرهم يوماً بعد يوم بروحيتهم وعلوِّ مقامهم ودرجات قربهم، حتى إذا زار موقع العملية التي أُسر على إثرها، حضرت أمامه صورة الاستشهادي الحر العاملي بابتسامته الوادعة، ليتذكر معها لحظات لم تخلُ منها مخيلته إلى حين يلقاه كما وعده هو. فهنيئاً له يأخذ من أيام عمره عبرة له وهنيئاً لنا وجوده اليوم بيننا علَّنا نستلهم من مسيرته عبرة تنفعنا في يومنا وغده.