نجلاء أبو جهجه(*)
لقد شاهدتهم يمرون أمامي في سيارة إسعاف "المنصوري"... منحوني منهم التفاتة أخيرة، وابتسمت (حنين) الطفلة الجالسة بقرب النافذة إلى عدسة الكاميرا قبل أن تغيب سيارتهم عن نظري، صورّتهم، ثم ذهبوا إلى حيث يرابط السفاح النازي... ما بين "المنصوري" و"صور" فكان أن حدثت جريمة نغّصت حياة العالم بأسره ذات يوم لكنها نغّصت حياتي كل يوم.
تسع سنوات مرت ويكاد لا يمر يوم إلا وفيه ذكر لغير مرّة لتلك المجزرة التي إن تناسيتها فلا بد للآخرين من تذكيري بها حيث تتجدد الأسئلة بتجدد الأشخاص والأمكنة. 13 نيسان 1996 كانت الساعة الواحدة والدقيقة الأربعين تقريباً عندما سمعت بوق سيارة إسعاف تقترب مني عندما كنت أرصد حركة طائرتين مروحيتين بالقرب من مفرق "الحنّيّة" جنوب "صور". صوّرتها، كانت مكتظة بالأطفال والنساء، ثم عدت أصوِّر الطائرتين اللتين اقتربتا من المكان، وفجأة إنطلق صاروخ ليسقط على بعد عشرين متراً منيّ محدثاً كتلة كبيرة من اللهب بعدما انبعث منه دخان كثيف حجب الرؤية فلم أُدْرِك بدايةً أن سيارة الإسعاف قد أصيبت حيث اعتقدت للوهلة الأولى بعد أن اختفت السيارة عن الأنظار بأنها قد تكون نجت مسرعة باتجاه صور، إلا أن الصاروخ كان قد قذف بها مسافة عشرين متراً داخل بستان حيث اجتاحت حائط غرفة واستقرت بداخلها. أطلقت الطائرات صاروخاً آخر باتجاه البستان لم ينفجر وحينما كنت أصور هذه الطائرة فجأة شاهدت رجلاً يخرج من البستان قادماً باتجاهي حاملاً بين يديه طفلين أحدهما رضيع وفتاة أخرى تركض إلى جانبه، ما لبث أن انضم إليهم رجل آخر أمسك بيد الفتاة (11 عاماً).
ظننت أنهم هاربون من المنازل القريبة فإذا بي أرى عندما اقتربوا أن الدماء تسيل منهم فأدركت بأن شظايا الصاروخ قد أصابتهم، الرجل حامل الطفلين راح يصرخ "ولادي الأربعة ماتوا" "أربع ولاد يا عالم"، كان هذا الرجل عباس جحا سائق سيارة إسعاف "المنصوري". كان عباس جحا يحمل طفلته مريم ذات الشهرين وقد هشّمت رأسها الشظايا وابنه مهدي ذا السنوات السبع الذي كان يئن بشدّة محاولاً دس رأسه في حضن أبيه، وكانت منار تركض حافية القدمين، تصرخ بأعلى صوتها "أختي انفجر رأسها" "يا ويلي بدي أختي" راحت تكرر الكلمات بشكل هستيري وهي تتمايل أرضاً والدماء تسيل من جراحها، صوَّرتهم على عجل وبسرعة البرق قصدت السيارة المنكوبة قفزت من مكان مرتفع أسلك طريقاً جانبياً عبر أشجار الليمون والموز ونبات الشوك متفادية الطريق الرئيسي المكشوف من الطائرات التي بقيت في المكان حيث إنها لو رأتني لكانت أمطرتني بوابل رشاشاتها منعاً لالتقاط تلك المشاهد. بعد أن قطعت أمتاراً قليلة بدأت أسمع أصوات الضحايا لتخبرني بالفاجعة التي حلت، ما إن وصلت حتى رأيت ما يقشعر له البدن، حطّمت السيارة جدار الغرفة ودخلت بالكامل تقريباً وبدا الأمر كأنه قبر جماعي لركاب تلك السيارة الملأى بالجثث والجرحى المهشمين تهشيماً فظيعاً.
ها أنا أرى الطفلة حنين الجالسة بقرب النافذة وقد تدلّى رأسها من سيارة الإسعاف وتسيل منها الدماء بغزارة، وإلى جانبها قد تسجّت امرأة "منى شويخ 30 عاماً" استشهدت وهي مستلقية على ظهرها فاتحة عينيها وأناملها قد تصلّبت نحو الأعلى ووجهها نحو ابنتها "حنين" وإلى جانب الشهيدة منى رقدت الشهيدة "نوفة العقلة 50 عاماً" وقد مزقتها الشظايا وقد سكن أحضان الشهيدتين ثلاث فتيات صغيرات رحن ينازعن سكرات الموت على عجل فكانت إحداهن تنادي بصوت مخنوق "يا عمتي... يا عمتي" وتصرخ من الألم وتتحسّس بيدها جدتها فيما جلست طفلة أخرى وقد وضعت يديها فوق ركبتيها وقد غطت الدماء وجهها بالكامل، كانت تئن بصوت رهيب حيث بدت عليها الصدمة بشكل كبير، كيف لي أن أصف لكم جسدها الراجف كورقة في مهب الريح لقد بقيت جالسة في مكانها كأنها ترفض السقوط وقد بدا لي بأن عينيها قد فُقئتا، بدت وكأنها تشاهد ما يدور حولها من أذنيها علها تعثر على من كانوا معها، بالقرب من أقدام الشهيدة "منى" تقوقعت طفلة من طفلاتها الثلاث اللواتي استشهدن وماتت وفي يدها أطراف ثوب أمها الأزرق تدس رأسها فيه. وفي المقعد الأمامي من السيارة نهضت طفلة مدماة الوجه والعنق ثم هوت مثقلة بجراحها في الوقت الذي كانت مسّاحات السيارة ما تزال تتحرك مصدرة صريراً يتردّد في مسامعي فيزيد الموقف رعباً والموت رهبة فكانت أشبه بيدي امرأة مفجوعة تندب ضحايا المجزرة. ستة شهداء بينهم أربعة أطفال وسبعة جرحى هم حصيلة مجزرة إسعاف "المنصوري" التي ما زالت آثار شظاياها محفورة على أجسادهم حتى اليوم وما زالت صورتها تحفر في ذاكرتي وحشية الصهاينة وإرهابهم.
*****
(*) مراسلة وكالة (رويترز) أثناء عدوان عناقيد الغضب.