لقد حدد الإسلام طبيعة العلاقة بين المؤمنين بكلمة واحدة ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (الحجرات: 10)، فالتوجه الأساسي في العلاقة مع الآخرين في أي موقع كانوا هو الأخوّة ولا شيء سواها كما تفيد كلمة (إنّما)، فكما تسقط الاعتبارات والمواقع والخصوصيات بين الأخوة فكذلك تسقط بين المؤمنين في أخلاقية التعاطي العام. وهذه الروحية بالتعاطي التي أمر اللَّه تعالى بها المؤمنين تكشف عن مدى ارتباط الإنسان باللَّه تعالى: "من أحسن فيما بينه وبين اللَّه أحسن اللَّه ما بينه وبين الناس"(1). فكلما ازداد التزام الإنسان وتدينه وارتباطه باللَّه تعالى كلما قويت فيه روح الأخوة في علاقته مع الآخرين. وهناك أمور مسلكية يجب مراعاتها مع المؤمنين سواء كانوا رؤساء أو مرؤوسين أو زملاء أو مراجعين، تتلخص بما يلي:
* حسن الظن: إن سوء الظن بالمؤمنين هو من أسوء الأمراض التي يمكن أن يبتلي بها المؤمن العامل، لأنه يتسبب بعدم الثقة بالآخرين مما يتسبب بإضعاف العمل وخسران الطاقات وعدم الاستفادة منها، وهو يؤدي أيضاً إلى التشنج في العمل وفي المؤسسات بشكل يؤدي إلى فشل الأعمال وزوال الروح الإسلامية من العمل. يقول اللَّه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ...﴾ (الحجرات: 12).
* ذكر الآخرين بالخير: إن التركيز على عيوب المؤمنين والبحث عنها لا للنصيحة والإصلاح بل للقدح والغيبة هي خطيئة كبيرة، ولها في عالم الغيب صورة قبيحة وبشعة تفضح الإنسان في الملأ الأعلى أمام الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين. هذه الصورة البشعة التي أشار إليها سبحانه وتعالى في قوله: ﴿... وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ...﴾ (الحجرات: 12). إن لأعمالنا صوراً وأشكالاً تناسبها ستظهر بتلك الصور والأشكال لتعود إلينا في العالم الآخر، والمغتاب يضاهي الكلاب الجارحة في افتراسه لأعراض الناس ولحومهم، وسيظهر بهذه الصورة كلب ينهش لحم ميت في نار جهنم. وفي رواية أن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله لما رجم الرجل في الزنا، قال رجل لصاحبه: هذا اقعص كما يقعص(2) الكلب، فمرّ النبي صلى الله عليه وآله معهما بجيفة، فقال: إنهشا منها، فقالا: يا رسول اللَّه ننهش جيفة؟ فقال: ما أصبتما من أخيكما أنتن من هذه(3). إن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قد شاهد بما لديه من قوة نور البصيرة النبوية الغيبية عمل المغتابين وعرف أن جيفة الغيبة أشد نتانة من جيفة الميتة، والصورة الحقيقية للغيبة أشد قبحاً وفظاعة من صورة الميتة المتفسخة.
* المداراة
عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله "أمرني ربي بمداراة(4) الناس كما أمرني بأداء الفرائض". وعن الإمام الصادق عليه السلام: "في قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ أي للناس كلهم مؤمنهم ومخالفهم أما المؤمنون فيبسط لهم وجهه وأما المخالفون فيكلمهم بالمداراة لاجتذابهم على الإيمان"(5). فمدارة الناس حسنة للآخرة وهي في نفس الوقت تسهل انجاز المهمات ويحصل بسببها التوفيق حتى في الأمور الدنيوية وقد ورد عن الإمام علي عليه السلام: "سلامة الدين والدنيا في مداراة الناس"(6). وفي المقابل فإنّ اللفظ الغليظ يعقّد المهمّات وينفّر الناس ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ...﴾ (آل عمران: 159). وفي رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام يحدد فيها المسلكية العامة للمؤمن في عبارات مختصرة حيث يقول عليه السلام: "كان لي فيما مضى أخ في اللَّه، وكان يعظّمه في عيني صغر الدنيا في عينه(...) وكان يفعل ما يقول، ولا يقول ما لا يفعل(...) وكان على أن يسمع أحرص منه على أن يتكلم وكان إذا بدهه(7) أمران نظر أيهما أقرب إلى الهوى فخالفه، فعليكم بهذه الخلائق فالزموها وتنافسوا فيها"(8).
* تقسيم الأدوار
إن الفخر الحقيقي هو في حُسن الانتساب للمسيرة الإلهية؛ فقيمة الشيء لا تؤخذ من نفسه بقدر ما تؤخذ من انتسابه، فالخرقة البالية التي لامست جسد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله لا يمكن أن تقاس في قيمتها المعنوية بأفضل جواهر العالم المحفورة في أعلى تاجٍ لأي سلطان أو ملك رأته شمس الدنيا! ألا نتمنى أن نكون خدمةً للحق؟! أم أن ألقاب الدنيا وزينتها أغويانا؟! إن تقسيم الأدوار هو شرط أساسي لتنفيذ الأعمال على أكمل وجه، ولا يمكن لشخص واحد أن يقوم بالأدوار جميعاً، بل على كل عامل أن يؤدي دوراً ما ضمن هذه المسيرة المباركة، وكما في الروايات التي تؤكد على ضرورة وضع مسؤول لكل مجموعة حتى لو كانت من ثلاث أشخاص فقط "إذا كان ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم"(9)، فإنه لا بد من وجود رئيس ومرؤوس، لا من باب التفاضل بل من باب تنظيم العمل وسد الثغرات، يقول الإمام الخامنئي حفظه اللَّه: الرتبة تعني النظام الدقيق ودورها تحديد المسؤولية والعلاقة بين الأفراد(10). فالرئيس والمرؤوس يكملان بعضهما البعض للوصول إلى طاعة اللَّه ورضوانه وتحقيق أمره. وكان الإمام الخميني قدس سره يعتبر المسؤول خادماً ويصر على لقب خادم ويتزين به، يقول الإمام الخميني قدس سره: "أن يقال لي خادم أفضل من أن يقال لي قائد، القيادة ليست مهمة، المهم هو الخدمة والإسلام أمرنا أن نخدم". ولتحقيق ذلك على أكمل وجه لا بد من تنظيم العلاقة بين المرؤوس والرئيس ضمن روحية أداء التكليف ورعاية الحقوق بحيث تكون قيمة العمل بدوافعه لا بمستوى الصلاحيات والسلطة.
* واجبات العامل
إن العلاقة مع الرئيس يجب أن تكون ضمن العناوين التالية:
1- النصيحة:
إن النصيحة وبذل المشورة أمر مطلوب من كل شخص يملك فكراً وخبرة تؤهله لذلك، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "فعليكم بالتناصح في ذلك وحسن التعاون عليه، فليس أحد وإن اشتد على رضا اللَّه حرصه، وطال في العمل اجتهاده، ببالغ حقيقة ما اللَّه سبحانه أهله من الطاعة له، ولكن من واجب حقوق اللَّه سبحانه على عباده النصيحة بمبلغ جهدهم، والتعاون على إقامة الحق بينهم وليس امرؤ وإن عظمت في الحق منزلته، وتقدمت في الدين فضيلته بفوق أن يعان على ما حمله اللَّه من حقه، ولا امرؤ وإن صغرته النفوس واقتحمته العيون بدون أن يعين على ذلك، أو يعان عليه"(11).
2- التعاون:
كما يستفاد من الرواية السابقة أيضاً (وحسن التعاون عليه...)والرواية تؤكد على أن التعاون بأي شكل كان غير كافٍ بل لا بد من حسن التعاون، بمعنى أن يكون العمل الذي نقوم به عملاً متقناً، فإن من صفات المخلص أن عمله يكون متقناً يبذل فيه طاقته ويحاول أن يؤمّن فيه كل أسباب النجاح الموجودة بين يديه. وروح التعاون هي التي يجب أن تحكم العاملين.
3- الطاعة في مقررات الإدارة:
الطاعة ضمن المقررات والقوانين، هي شرط أساسي للتوفيق ونجاح العمل، والتشتت وعدم الطاعة هو أخطر مرض يمكن أن تصاب به أي مؤسسة، وهذا أمير المؤمنين عليه السلام، ذلك القائد العظيم يقف أمام جيشه وقد خيبوا آماله ليقول لهم: "قاتلكم اللَّه! لقد ملأتم قلبي قيحاً وشحنتم صدري غيظاً... وأفسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان، حتى لقد قالت قريش إن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب. للَّه أبوهم! وهل أحد منهم أشد لها مراساً وأقدم فيها مقاماً مني؟! لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين وها أنا ذا قد ذرفت على الستين! ولكن لا رأي لمن لا يطاع(12). فالمشكلة في حكومته عليه السلام لم تكن في النظام، فهل يوجد أفضل من الإسلام العظيم نظاماً؟! ولا كانت في القائد، وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام، بنفسه القائد لهم، بل المشكلة كلها كانت في عدم الطاعة، فعدم الطاعة كفيل بإفشال أكثر المشاريع إتقاناً وأهمية!.
(1) نهج البلاغة، الحكمة 415.
(2) القعص: القتل.
(3) المحجة البيضاء، المجلد الخامس، ص253.
(4) ميزان الحكمة، الحديث 5490.
(5) ميزان الحكمة، الحديث 5495.
(6) ميزان الحكمة، الحديث 5509.
(7) بدهة الأمر: فاجأه وبغته.
(8) نهج ابلاغة، 289.
(9) نفس المصدر.
(10) اطلاعات 69 – 11-30.
(11) نهج البلاغة، الخطبة 207.
(12) نهج البلاغة، ج1، ص70، الخطبة 27.