مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

قصة قصيرة: الخير كله‏

ح.ز

 



أخذ يتناول طعامه بتمهل، وهو يصغي إلى زوجته تحدّثه، كان يحسّ بالاستئناس حين تجلس قربه، باسمة الوجه دافئة الصوت، تقص عليه ما فاته في غيبته، لم تكن تترك كبيرة ولا صغيرة، تلقيها على مسامعه بحبور وطلاوة، كأنما لا يعنيها من الكون كلِّه سوى وجوده قربها.

تحدثه عن حركات طفلته ذات العشرة أشهر وحبوتها الأولى، وكيف أنها تلوك الأحرف محاولة الكلام، ونظرات الطفولة المندهشة مما تراه حولها، وعن ابنه نديم ذي السنوات الثلاث، وأسئلته المتلاحقة حتى الملل، وصخبه وعفرتته وهدوئه محاولاً فهم ما يجري، وأسئلته المتلاحقة عن أبيه، وأين وهو وسرّ غيابه عن المنزل، وتحمسّه لأناشيد المقاومة يرددها "الموت لامليكا، الموت لإسلائيل" وتضحك الزوجة وهي تقول "الابن سرّ أبيه" وابتسامتها تكشف عن عاطفتها والحنان. لطالما أحسّ بشفافيتها كأنما يقرأ من كتاب، وشوقها إليه يبين من عينيها العسليَّتين كأنما اختلط بحلاوتهما، التي ما نسي أبداً ولعه بهما قبل أن يتزوج بها، وكيف أن فؤاده كان ينوس رقة إذ يراها، وطلّتها تعصف بكيانه، مشيتها الهادئة، حياءها وإطراقها إذ تراه، ارتباكها وارتباكه عن الكلام، وتردده مراراً بالبوح لها بما يعتلج(1) في فؤاده، وأمانيَّه لو يراها كل لحظة ليطفئ هذا الشوق لعينيها وطلّة الوجه، وتردده وحيرته، بين "عاطفته" و"الواجب"، وأمانيّه أن تكون شريكة حياته، أن تعرف عنه بأنه لا يمتلك هذه الحياة في سعيه نحو مرضاة اللَّه سبحانه، ولا يملك ليلاً يؤنس فيه وحدتها، أو نهار يخفف عنها فيه ساعات الانتظار، حياته باعها منذ زمن واشترى بثمنها الرضوان، ويخاف أن يحملّها حمله وأن تكون خطوته نحوها ثقلاً يلزمها إياه بقية الحياة. كم حاول أن يبتعد وينسى، غير أن شوقه لعينيها كان يغلب على وحدته وترحاله، وكان يراهما كيفما يحرك وجهه فيهفو فؤاده إليها حتى فاض به الوجد وعزم أن يلقي ما يعانيه أمامها، ولما باح لها بعض ما قدر على قوله من سرِّه والعاطفة، ذاب رقة أمام عينيها اللتين أغرورقتا بالدمع وحنانها فوق تعابير الوجه المتفهم لما يعانيه، وحزمها والتضرع إليه في الشفتين المرتعشتين بتوسل "يعبد المرء ربه سنوات وسنوات علّه ينال المغفرة والرضوان، وها أنت تشعرني بريح الجنة أمامك ومحبة اللَّه، وتسألني؟ وهل أبغي أكثر من ذلك؟ الخير كله بين يديك فخذني معك".

أربع سنواتٍ مرت على زواجهما، كان لغيابه عنها وعودته إليها طعم ولون، وبهجة طفولية تطل على ابتسامتها الحلوة إذ تراه، ووجهها المشرق ولمَّات الشوق دون ارتواء، كانت معه تغمر البيت دفئاً وسكينة، وحناناً يغمره ويفيض، وصلاة وعبادة ودعاء تطوف أرجاء البيت ليله ونهاره، ومشاعر نبل وإخلاص في الاهتمام به بقدسية العابد وريحانة التقى حتى يحين رحيله التالي عنها فتأخذ يده، تضعها على رأسها والخد وتلثم باطن الكف دون كلام، مجرد نظرات أشبه بنظرات الأم الحنون. وكان يوم، وصل فيه مع رفاقه المقاومين إلى موقع للعدو وتقرر اقتحامه، وسبق لرصد المقاومة مراقبته بدقة، غير أنه في الفاصل الزمني بين المراقبة وقرار التنفيذ أدخل العدو إلى الموقع أسلحة جديدة وعزّز دشم دفاعاته وبينها دشمة رئيسية تتحكم بالدخول إلى الموقع، ما إن بدأت العملية حتى راحت تلك الدشمة تطلق زخات كثيفة من النيران أعجزت المهاجمين وكان لا بد من إسكاتها، حمل عبوة ناسفة وطلب التغطية من رفاقه واندفع نحوها وهو ينادي "لبيك يا حسين" مطلقاً نيران رشّاشه عليها، أصيب في صدره أثناء عدوه السريع إلا أنه لم يقع، وواصل اندفاعته حتى مدخل الدشمة فانهار مُفَجِّراً العبوة، وأكمل رفاقه العملية بعده بنجاح.

كان نعشه محمولاً على أكف رفاقه يطوفون به أزقة القرية مودعاً، وخلفه عجائز وشبان يرفعون قبضاتهم والحناجر مجددين العهد والبيعة، وأمام النعش سار طفل صغير لم يتجاوز الثالثة من عمره إلا قليلاً، رافعاً يمينه مكوراً قبضته مردداً وعيناه تتطلعان إلى البعيد البعيد في الأمام "الموت لأمليكا، الموت لإسلائيل".


(1) يعتلج: يتصارع يتلاطم.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع