هناء نور الدين
هي المثل الأعلى إذا سارت على هدي الإسلام، والقدوة المتجلية أنوارها في دنيا الإنسان إذا أدركت معنى الإنسانية، ونبراس الحقيقة الوهَّاج الذي يختزن في أعماقه الإيمان واليقين ومعرفة اللَّه إذا جدَّت في السير والسلوك إلى الحق تبارك وتعالى.. وهي التي حملت أسرار البشرية على امتداد تاريخها الطويل، خلقها اللَّه تعالى كي تكون أنساً وحضناً دافئاً تتربَّى فيه الأجيال ومنه يعرجون إلى عالم القيم والمعرفة... تلك هي المرأة (الأم، الزوجة، البنت، المربية...) إذا عرفت السبل المؤدية إلى صلاح الذات والمجتمع، وأدَّت دورها كما ينبغي، تُوجت بتاج العزّةِ والكرامة وارتفعت بروحها إلى عليين... فكيف تتمكن المرأة من تجسيد مفهوم الصلاح؟ وكيف تكون صالحة انطلاقاً من القرآن الكريم والأحاديث المروية عن أهل البيت عليهم السلام... وما هي سبل تحقيق ذلك؟
* القرآن ومفهوم الصلاح:
إن صفة الصلاح التي منحها القرآن للمرأة، تعتبر ميزة عظيمة ورائعة، يقول تعالى: ﴿... فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ..﴾ لأن من مصاديقها الاستقامة، والسير على الصراط المستقيم، وطاعة اللَّه، والهدى... والتهجد في العبادة والدعاء والاستغفار وخدمة الناس والمجتمع إلى الكثير من القيم التي يتّسم بها أهل المعروف والصلاح والسداد، والتي لا تصدق إلاَّ على الأنبياء عليهم السلام والأولياء والصالحين والمجاهدين. ويبيِّن اللَّه لنا في الكثير من آياته أن نتيجة الصلاح والإنسان الصالح في الآخرة هي الجنَّة والفوز بمحبة اللَّه ورضوانه أما في الدنيا فيفوز صاحبه باحترام الناس وتقديرهم ومحبتهم... وقد حدثنا اللَّه تعالى عن عباده الصالحين الذين اصطفاهم وخصَّهم بدرجة النبوَّة وأعطاهم المكانة العظيمة في الدنيا والآخرة لصلاحهم وقوة إيمانهم ويقينهم باللَّه عزَّ وجلَّ... يقول تعالى على لسان النبيِّ إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ﴾ (الشعراء: 84 ،83) وعلى لسان النبي شعيب عليه السلام في حواره مع النبي موسى عليه السلام: ﴿... سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (القصص: 27) وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِين﴾ (الصافات: 112) في سياق عرض قصة النبي إبراهيم عليه السلام وقوله تعالى: ﴿فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (القلم: 50). إذن لقد سعى الأنبياء عليهم السلام للصلاح في الأرض وهداية الناس، والصدق في القول والعمل حتى باتوا القدوة والمسلك ومصداق الآيات المباركة: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار﴾ (البقرة: 5) ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾ (يونس: 9) ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ (الكهف: 46). يستفاد من الآيات المتقدمة منزلة العمل الصالح وثقله في الميزان وأهمية أن ننطلق لنصلح في الأرض رجالاً ونساءً.
* من هي المرأة الصالحة؟
ونظراً لأهمية الأمانة الإلهية والدور الكبير الذي أعطاه اللَّه تعالى للأنبياء لأن فيه صلاح المجتمع وهدايته... كذلك خصَّ اللَّه تعالى المرأة في القرآن الكريم بهذه الخاصية، ورفعها إلى مستوى الصالحين، لأنها معلمة، ومربية وقدوة الأجيال.. وهي لن ترتقي هذه الدرجة إلا بالعمل الصالح الذي يقربها إلى المولى عزَّ وجلَّ. يقول تعالى: ﴿... فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾ (النساء: 34) حيث يدل سياق الآية المباركة على أن كل امرأة صالحة تحققت فيها شروط ومعاني الصلاح من الهدى والاستقامة وعبادة اللَّه تعالى لا بد أن تكون مطيعة للَّه تعالى وهذه نتيجة حتمية: فالصالحات قانتات: أول صفة منحها اللَّه تعالى كونهن صالحات والصفة الثانية التي تليها أنهنّ قانتات وهي تمثل أعلى درجات الطاعة في الأمور العبادية والقيام بالواجبات والفرائض. لقد تحقق فيهنَّ معنى العبودية الحقّة فانطلقن لصلاح الأنفس وتغييرها، ومن تطع اللَّه تعالى تطع زوجها المفترض طاعته في حدود الطاعة المفروضة على المرأة لزوجها والتي لا تخرجها من حق أو تدخلها في باطل ويدل على طاعة اللَّه قوله تعالى: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّك﴾ أي توجهي لربك بالطاعة والعبادة والمناجاة ومنه يأتي القنوت في الصلاة والدعاء وهذه الآية المباركة تستعرض في أولها مسألة القوامة ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ .. فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ﴾.
وحيث لن أدخل في مسألة القوامة سنحدد فقط مفهوم الصلاح الذي يؤدي إلى استقرار الحياة الزوجية. فمن يتأمل في سياق الآية المباركة يرى أنها نظام تربوي شامل في تحديد واجبات المرأة اتجاه زوجها للحفاظ على الأسرة من الضياع والتشرذم وكذلك في علاقة الزوج معها، تلك العلاقة القائمة على المودَّة والرحمة والثقة نتيجة لعفتها وصلاحها وتقواها، إذ من الطبيعي أن تكون حريصة على أمر وحياة زوجها فلا تعصي له أمراً وقد ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أنه كان يقول للنساء "إن رضا أزواجكن من رضا اللَّه تعالى"...
وطلب مرضاة الزوج في اللَّه، يؤدي إلى حفظه بالغيب حيث ينطلق القرآن الكريم لمنح المرأة صفة ثالثة بعد الصلاح والقنوت نقرأ في معانيها القيم الإنسانية الكبرى وأية قيمة أجمل وأجلُّ من الإخلاص وأداء الأمانة والحفاظ على العفة وهو ما أشار إليه قوله تعالى: ﴿حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ﴾ أي الزوجات قائمات برعاية وأداء حقوق أزواجهن في غيابهم، وموارد حفظ غيبة الزوج أن تصون المرأة نفسها من الوقوع في الدنس والحرام وهو ما حدَّثنا به تعالى: ﴿وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ ﴾... أي أن تحفظ أسراره وماله، وتصون منزله وعائلته، لأن في ذلك حفظ الأنساب، ونقاء العلاقة الزوجية وطهارتها وسعادة الأسرة وسموّها... ذلك نتيجة لما حفظ اللَّه لهن من الحقوق والواجبات... وقد ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أنه قال: "إن عرفت المرأة ربها، وآمنت به وبرسوله، وعرفت فضل أهل بيت نبيها، وصلّت خمساً، وصامت شهر رمضان وأحصنت فرجها وأطاعت زوجها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت"(1). وعنه صلى الله عليه وآله: "خير النساء امرأة، إن نظرتَ إليها سرتك، وإن أمرتها أطاعتك، وإن غبت عنها حفظتك في مالك ونفسك وتلا الآية المباركة...". إذن لقد ركز الإسلام على أهمية صلاح المرأة ودورها في المحيط الخاص بها: الزوج والأسرة لأن من خلال هذا المجتمع الصغير سوف يتم الاعداد لبناء المجتمع الكبير قيماً ومفاهيم تربوية وسلوكية...
* سبل تحصيل الصلاح
إن عملية تحصيل الصلاح والارتفاع عن شهوات الدنيا والسلوك إلى اللَّه تعالى بحاجة إلى جهاد نفس وكبح للذات عن رغباتها وميولها وخصوصاً المرأة لأنها ربما تندفع بوحي من عاطفتها وغريزتها فتزل قدمها أو أنها ربما تتأثر بعوامل الغزو الثقافي الغربي فتقع أسيرة التبعية مما ينعكس سلباً على دورها المطلوب منها... لذلك وضع الإسلام برنامجاً عملياً تربوياً وأخلاقياً للرجال والنساء ولكن الحديث هنا خاص عن المرأة تدرب فيه النفس على الطاعة والعبادة بأن تتخلى عن جميع الصفات السيئة وتكتسي أخلاقاً إنسانية ورسالية فاضلة، يقول الإمام الصادق عليه السلام في رواية يحدد فيها مفهوم الإسلام عن المرأة "المرأة الصالحة خير من ألف رجل غير صالح" وهو بهذا يقرر أن المعيار الوحيد في نظر الإسلام للإنسان هو الصلاح والتقوى، وأن نظرته إلى الإنسان بمقدار ما يقدم من عمل حسن وفاضل... والمرأة الصالحة هي التي تشرح صدرها للإسلام وتعاليمه وتسرح في آفاق العبادة الرحبة التي تؤهلها لأن تلعب أدواراً متعددة وأولها وأهمها التربية والتعليم ومواجهة الانحرافات والفساد في المجتمع، وبث الوعي والتوجيه الإسلامي في كل زاوية من زواياه وهذا يحتاج إلى رصيد علم كبير، وانتهال غزير من منابع الثقافة الإسلامية...
أختاه! طريق الصلاح للوصول إلى حقيقة العبودية طويل وصعب، لكن إذا حلَّ حبُّ اللَّه تعالى ومعرفته في قلبك فمن السهل أن تصلي ومن أجدرُ منكِ بالوصول، وقطع المسافات للتقرب من اللَّه ولقائه.. وهلاَّ أسرعتِ في المسير؟!
(1) دعائم الإسلام، ص216.