حوار: منهال الأمين
ورد في الحديث أن "التائب من الذنب كمن لا ذنب عليه". فأن نتوب إلى اللَّه تعالى، ذلك أمر أنعم به عزَّ وجلَّ على عباده المقصرين في جنبه. ولكن ماذا عن تكرار المعصية، وبالتالي تكرار فعل التوبة؟ ثم ماذا عن التوبة النصوح؟ وكيف يكون هناك أشخاص "غير صالحين" للتوبة؟ وهل للتوبة عمر محدد أو طريقة معينة؟ وهل يخرج التائب من ذنوبه كيوم ولدته أمه؟ هذا ما حاولنا خوض غماره مع سماحة العلامة الشيخ حسين كوراني، فكان هذا الحوار:
* التوبة على فراش الموت
- في حديث للإمام الصادق عليه السلام: "... من تاب قبل أن يُعاين قبل اللَّه توبته"، هل يعني ذلك أن التوبة تُقبَل حتى لو على فراش الموت؟
النقطة المركزية التي ينبغي التنبه لها في باب التوبة، هي استصلاح الإنسان، والنصوص صريحة بأن الفرصة المتاحة أمام الإنسان فرصة أكبر بكثير مما نتصور. والحديث عن قبول التوبة قبل المعاينة صريح. في أن الإنسان ما دام لم يصل إلى الاحتضار وبداية نزع الروح وخروجها، فتوبته مقبولة. لذلك نجد من علمائنا من يقول أن من رحمة اللَّه الواسعة أنَّه أمر عزَّ وجلَّ ملك الموت أن يبدأ من القدمين لتكون الفرصة متاحة أكثر أمام الإنسان للتوبة، وفي بعض النصوص ذُكرت "الغرغرة"، أي عندما تصبح الروح تتردد في حلق الإنسان (خروج الروح)، وقبل هذه المرحلة التوبة مقبولة. ولكن هل يصح أن نراهن على هذه الحالة، فنقول أن الإنسان بإمكانه فعل ما يشاء وعندما يشعر بدنو أجله يتوب؟ كلا، لأن الكلام يدور على أن هذه التوبة إذا تحققت تُقبل، لكن من قال أنها تتحقق لكل الأشخاص الذين يمرون بمثل هذه الحالة؟
- أين موضع الاستصلاح الذي تفضلتم بالحديث عنه في شخص يعالج سكرات الموت؟
إذا كان المقصود بنتيجة التوبة فعلاً معيناً، فعندها نسأل عن مصداق الاستصلاح ومحله. أما إذا كان المقصود بنتيجة التوبة حركة القلب والنفس "والطينة" والفطرة، فالوضع مختلف إذا كان أمام الإنسان متسع من العمر، فهو قادر على أن يعمل الكثير، وفرصة الاستصلاح طبيعية جداً. ولكن هذا الكثير الذي يفعله، ما هو إلا ثمرة حركة في الداخل وفي الذات. هذه الحالة إذا تحققت وهو على فراش الموت، فلا بد وأن تترك آثارها. لا يرد اللَّه عزَّ وجلَّ أن يدخل أحداً النار. فبمجرد أن تكون هناك فرصة لقبول عبده، فإنه يقبله لأنه نعم المولى ونعم النصير.
* تدارك الذنوب
- هل القاعدة أن يتدارك المؤمن ذنوبه بطريقة بهلول النباش*؟
أميل إلى أن لا نضع أمامنا في باب التوبة أي طريقة خاصة نجعلها قاعدة، على الإطلاق، لأن لكل قلب طريقة في التعبير عما يدور في آفاقه. المهم أن تتحقق حالة التوبة الحقيقية بمعنى أن التوبة يجب أن تكون جذرية. وينبغي أن تحدث تغييراً بنيوياً في الوضع النفسي، وتوجه القلب، فيصبح بإمكانه عند ذلك أن يقول بصدق: ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾ (الأنعام: 79).
- ما هي شروط التوبة وهل هي صعبة وشاقة؟
الأساس في قبول التوبة هو سلامة العقيدة، والشرط الأساسي بعد ذلك هو الندم الحقيقي الذي لا ينفصل عن العمل، لأن انفصاله عن العمل يفقده قيمته الحقيقية. الذي يريد أن يتوب إلى اللَّه عزَّ وجلَّ، ينبغي أن يتأمل قبل الشروع في حركة قلبه، هل هو صادق عندما يقول: "أستغفر اللَّه ربي وأتوب إليه"؟ هل يريد حقيقة أن يستغفر اللَّه تعالى ويتوب إليه أم ماذا؟ إذاً التوبة هي هذا الندم، الذي لا يمكن أن يكون حقيقياً وفاعلاً إلا إذا كان بمستوى يحرق فيه أدران الذنوب ويلغي السلوك الماضي ويفتح باباً لسلوك من نوع آخر.
- إذا كان المطلوب أن تقترن التوبة بالندم والحسرة، فهل معنى ذلك أن يعيش الإنسان بائساً قلقاً على مصيره؟ أم أن هناك سبيلاً ليعيش سلاماً داخلياً مع نفسه بعد التوبة؟
هناك فرق بين البدء بعملية التوبة والتفكير بالتوبة. القلق ضروري في هذه المرحلة ومراحل كثيرة بعدها، فالتائب لا بد أن يعيش هذا القلق الإيجابي، الذي يحمله على تصحيح مساره. في مراحل التوبة كلها سواء التفكير أو البدء بها لا بد أن يعيش هذا القلق وبعد التوبة قد يستمر هذا القلق ولسان حاله: "إلهي هل قبلتني فأهنّى، أم رددتني فأُعزّى". وتبقى هذه حاله إلى أن يطمئن بأنه قُبل. والاطمئنان يتوقف على ترك المعصية والتوفيق للطاعات. علماً بأننا مأمورون بأن لا نثق بقبول توبتنا لمجرد الدعاء. فقد تكون خدعة من الشيطان أن يرضى الإنسان عن نفسه، كما أن من خدعه أن يوسوس للإنسان بأنه لا أمل له بالتوبة، أو يضع سقفاً لحجم ذنوبه، مع أن الحجم الحقيقي يكون مختلفاً جداً.
* توبة لا تقبل!
- هل هناك ذنوب لا أمل لصاحبها بالتوبة؟
كلا، لا يوجد ذنب إذا تاب منه صاحبه لا تُقبل توبته ولكن توجد ذنوب لا يمكن لصاحبها أن يتوب بسببها، ويُعبر عن مثل هذه الحالة بأنه لا تُقبل توبته لأنها سالبة بانتفاء الموضوع. لأنه في الأصل ليس هناك من توبة حتى تُقبل.
وقد ورد هذا المعنى في القرآن الكريم: ﴿اِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ..﴾ (النساء: 137).
- هل لأنه لا يتوقع منهم التوبة؟
بل لأنه لا توجد توبة لكي تقبل أصلاً، كما ورد في نصوص بعض المفسرين. وما أود توضيحه أن اللَّه عزَّ وجلَّ لا يحرم أحداً إذا تاب، ولكن من ارتكب ذنباً وجنى على نفسه بسبب هذا الذنب، لن يوفق للتوبة فعندها يمكن القول أن اللَّه لا يقبل توبته. وهذا يوضح بجلاء مدى الرحمة الإلهية الشاملة في باب التوبة. وليس قبول التوبة ممنوعاً عن أحد، ولكن الشرط الأساسي للتوبة هو سلامة العقيدة، فإذا كانت عقيدة الشخص غير سليمة، أو ارتكب ذنباً يدل على ذلك، كقتل الإمام الحسين عليه السلام وغير ذلك من المعاصي التي مصدرها فساد عقيدة فاعلها، فلا مجال حينها للقول أن هذا إذا تاب فما حكمه، لأن سلامة العقيدة هي الخطوة الأولى.
- هل هذا يعني أن مثل هكذا شخص لا يُستتاب؟
نعم هناك حالات، لا يستتاب فيها المذنب، كالمرتد مثلاً، فيجب قتله (وحالة سلمان رشدي خير دليل).
- ماذا عن مصطلح "مستشفى جهنم"، وهل هذا يعني أن بعض التائبين عليهم أن يمروا بفترة عذاب مؤقتة تزكيهم، ثم يدخلون الجنة؟
مصطلح "مستشفى جهنم" هو للشهيد دستغيب رضي الله عنه، والمراد بذلك أن العاصي المستحق للعذاب تكون جهنم مرحلة استصلاح له بالعذاب لأنه لا يمكن له أن يتخلص من آثار معاصيه التي ارتكبها إلا بالنار (وهو الذي أوصل نفسه إلى ذلك). الذي يتوب في الدنيا توبة حقيقية، لا يبقى له ذنب يُعذب عليه، ولكن قد تكون توبته من ذنب دون آخر، وقد تكون غير حقيقية.
* التوبة النصوح:
- هذا يعني أن التائب توبةً نصوحاً، لا متعلقات عليه في الآخرة؟
التوبة كفيلة بأن تُرجع الإنسان إلى حالة أفضل بكثير من حالة "يوم ولدته أمه". التوبة النصوح هي التي تجعل الإنسان بمستوى ﴿فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ (الفرقان: 70) فهو أصبح صاحب رصيد من الطاعات بمقدار "رصيده" من المعاصي. فمثلاً إذا كان رصيده من المعاصي ذنوب 50 سنة، فتاب توبة حقيقية، عندها يصبح رصيده من الطاعات 50 سنة، إذاً هو أفضل من يوم ولدته أمه بكثير. وبالتالي لا يبقى أي مجال للعذاب إذا وفق الإنسان لهذه التوبة. والجدير بالذكر هنا أن كل القوانين الوضعية في العالم، لا تمنح الإنسان معشار ما تمنحه الروايات والآيات والنصوص من هامش للتوبة في القانون الإسلامي. فتبديل السيئات بالحسنات من مختصات الإسلام وهي كثيرة جداً.
- يقول الإمام الخميني قدس سره في كتاب "الأربعون حديثاً": "إن الشخص التائب لا يستعيد الصفاء الداخلي السابق". هل يتعارض هذا الكلام مع مفهوم "التوبة النصوح"، أم أن هناك تفسيراً آخر له؟
ما نلاحظه بوضوح في حديث الإمام رضي الله عنه أنه يؤكد بأن التوبة تخرج الإنسان من كل أدران الذنوب إذا كانت توبة حقيقية بكل معنى الكلمة. ولكن لأننا عادة لا نوفق لتوبة من هذا النوع، فإن جروح المعاصي وخدوشها تبقى بشكل أو بآخر في النفس. لذلك فالإمام الخميني قدس سره لا يريد القول أن التوبة مطلقاً لا ترجع الإنسان إلى ما كان عليه، وإنما يقول أن التوبة ترجع الإنسان كيوم ولدته أمه، ثم عندما يتكلم عن آثار الذنوب في سياق أننا لا نوفق للتوبة النصوح يذكر هذا المعنى الذي سبق ذكره عن عدم استعادة الصفاء الداخلي. وهنا نقطة هامة يفترض التنبه لها، وهي التي جعلها الإمام قدس سره محوراً في كلامه، وأشار إليها إشارات، وهو أنه في الروايات ورد أن من شروط كمال التوبة، أن لا يجد المرء في نفسه حلاوة الذنب الذي ارتكبه. وهذه نقطة شديدة الأهمية. لأن الذنب الذي تاب الإنسان منه وما زال يعيش حلاوته، فهذا يعني أن خدوش هذا الذنب وجروحه وظلماته ما تزال موجودة في النفس. لذلك ينبغي التنبه بدقة إلى أن التوبة النصوح، في تفسير هذا المصطلح، هي التي لا غش فيها على الإطلاق، وقد ورد في الروايات: "خلِّص العمل، فإن الناقد بصير".
* التوبة اليومية
- ما قيمة التوبة إذا ما تحولت إلى فعل يومي بتكرار الذنوب؟
وما الضير في ذلك؟ فنحن البشر خطّاؤون، وإذا كان المقصود بالتوبة أن يتوب الإنسان مرة، على أن تكون هذه التوبة صادقة، فينبغي أن نبحث عن مصاديق (كائنات) يمكنهم تحقيق ذلك، غيرنا نحن البشر الخطائين. جاء شخص إلى الإمام الصادق عليه السلام يسأله سؤالاً من هذا النوع، فقال له عليه السلام: "لا تقنّط الناس". حتى إذا الواحد منا تاب ثم أخطأ ثم تاب ثم أخطأ في نفس اليوم عشر مرات، فذلك لا يبعث على أن نُقنّط الناس. ولكن ينبغي التنبه إلى مسألة دقيقة. فنحن قلنا أنه تاب ثم رجع، وذلك يختلف عن القول أنه خادع ثم رجع. فإذا تاب توبة حقيقية في اليوم مئة مرة، فهذا هو المطلوب لأن اللَّه عزَّ وجلَّ ﴿يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ (البقرة: 222) وهنا صيغة مبالغة فهو يعرفنا ويعرف ضعفنا، وأننا سنكثر التوبة، ويكثر هو عزَّ وجلَّ القبول.
* أوان التوبة
ما مصير التائب بعد أن تخونه قواه، فلا يعود قادراً على ارتكاب الذنوب (كتوبة أبي نواس عن الخمرة بعد أن فتكت بجسمه) وقد يجتمع مع هذا العجز ندم وشعور حقيقي بالتفريط؟
لا يرتبط تقويم التوبة بالفترة الزمنية أو بمدى "العبّ" من أكؤس الشهوات وما شابه، وإنما يرتبط بحركة القلب فمن تاب تاب اللَّه عليه إذا تاب...
ولكن في هذه الحالة، هناك عوامل تفرض عليه ربما التوبة؟
مهما كانت العوامل المحيطة بالشخص أو الحالات التي يعيشها فإذا تحققت التوبة الحقيقية قبل اللَّهُ توبته. طبعاً لا أقول أن كل من يدعي أنه تاب يكون حقيقة قد تاب، ولكن الكلام يكون إذا تحققت التوبة الحقيقية من أي كان تُقبل توبته.
* اغتنم شبابك قبل هرمك:
لماذا التركيز على التوبة في سن الشباب؟
التركيز على سن الشباب يرجع إلى أن المعاصي تكون في أول سن الشباب في مرحلة الطفولة. شجرة المعاصي تكون غرسة، ثم تكبر تدريجياً. فكلما كبر الإنسان كلما كبرت معه هذه الذنوب. إذاً سبب الحث على التوبة في هذا العمر، هو ملاحظة حقيقة شجرة المعاصي. الشجرة الخبيثة في أول الشباب تكون غرسة، ثم تبدأ بالنمو والكبر. وفي سن شيخوخة الإنسان تكون قد قويت وأصبح هو ضعيفاً لا يمكنه مقاومتها. فالتركيز على سن الشباب، هو تركيز على الفترة التي يكون الإنسان فيها قوياً، وشجرة المعاصي ما تزال ضعيفة يمكنه اجتثاثها واقتلاعها، وهذا هو السبب. ولكن حالة التوبة التي قد تحصل من الشاب، قد تحصل من الشيخ الهرم، إذا عرف كيف يتوب وكيف يتفجع، وإذا ما توسل بالمصطفى الحبيب صلى الله عليه وآله وبأهل البيت عليهم السلام ليعينه اللَّه عزَّ وجلَّ على التوبة الحقيقية. هنا لا بد من الإشارة إلى أنّ من الأسس القرآنية الواضحة، العلاقة بين التوبة وبين الوقوف بباب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، فقد قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ (النساء: 64). يعني ذلك أن الباب إلى التوبة منحصر بالوقوف بباب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام أي التوسل بهم ليمنّ اللَّه عزَّ وجلَّ بالتوفيق للتوبة النصوح، ويمنّ بقبول التوبة.
* نصيحة:
نعيش اليوم أوضاعاً أخلاقية صعبة، فالحرام محيط بنا من كل جانب ولذا صارت التوبة فعلاً يومياً، بل وحتى كل ساعة، بتكرار الذنوب. ما هي النصيحة التي تقدمها سماحة الشيخ للشباب بشكل خاص وللمؤمنين بشكل عام؟
"حُفّت الجنة بالمكاره وحُفّت النار بالشهوات" فمن هوان الدنيا على اللَّه أنه لا يُعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بالإعراض عنها. ولكن في نفس الوقت الدنيا هي مسجد أحباء اللَّه. وهي التي يمكن أن نطيع اللَّه عزَّ وجلَّ فيها. من المهم أن نختار الجو الذي نعيش فيه، لكلٍّ جوّه النفسي، والإنسان ابن جوّه. فمن الطبيعي أن الانفتاح على أجواء المعاصي سوف يترك أثره تلقائياً في النفس. ومن واجبنا أن نُنَقِّي أجواءنا من التلوث وأن نحفظ بيئتنا الظاهرية... طبعاً ليس إلى حد العزلة أو الاعتزال! لا، فمسألة التنقية لا تتحقق على الإطلاق بالعزلة. وإنما تتحقق بوجود الموانع في النفس، من التفاعل مع القيم السيئة، وأن تتوجه النفس نحو القيام بالفاضل من الأعمال. لا بد وأن يكون التدين في معترك الحياة. يعني مطلوب منا أن نشتبك بالدنيا دون أن نتأثر بسلبياتها، وهذا هو التحدي الكبير.
(*) راجع قصة بهلول النباش في مقالة "من قصص التائبين" في هذا العدد.