علي كريِّم
مع صباحات فجر المقاومة الندي، تستفيق قلوبهم وملؤها العشق للواحد الأحد، فتحمل أيديهم السلاح، وتلهج ألسنتهم برسالة محمد صلى الله عليه وآله وشجاعة علي عليه السلام وحب الحسين عليه السلام ونصرة القائم عجل الله فرجه... حتى إذا اختصهم الباري بلطفه وأكرمهم بجرح هو مصداق لقربه، أسرجوا به دروب الحرية ووطنوا معه أنفسهم إيذاناً بأن هذا الجرح هو الشاهد الحي، والسبيل لحمل الرسالة إلى كل تائق للعبور حيث رضوان اللَّه الأكبر... مع بالغ الجرح تكبر عزائمنا، وتنير بصائرنا، ومع الجريح نسرح في عالم العشق الحقيقي للَّه ولأوليائه الصالحين، هذه باختصار حكايتنا مع الجريح أحمد درويش...
* بدايات العمل المقاوم
فالجريح من مواليد بلدة المجادل الجنوبية بتاريخ الثالث من شباط للعام 1969. بدأ مسيرته الجهادية باكراً، ومع الإطلالة الأولى للمقاومة الإسلامية في ساحة الميدان. كان عمره حينها 13 سنة. فعلى إثر استشهاد شقيقه الأول خلال عمله المقاوم إزاء الاجتياح الإسرائيلي ومن ثم شقيقه الآخر في مجزرة صبرا وشاتيلا، ازداد يقين أحمد بأن حمل السلاح للدفاع عن الأرض والوطن والمقدسات هو السبيل الوحيد لصون الكرامات وعيش الحياة العزيزة. لم يفارق مخيلته المشهد الذي يجمع أجساد شهداء مجزرة صبرا وشاتيلا وهو يبحث مع أهله عن جسد أخيه الشهيد، أدرك حينها أن العدو شرس ولا بد من مجابهته ولو قلَّ الناصر. وفي ذلك الحين كان اللقاء بالشهيد القائد الحاج علي ديب (أبو حسن سلامة) والذي احتضن أحمد ليكون له حينها الأب والمرشد والملهم والأخ الكبير، فكانت بدايات العمل المقاوم معه وليرافقه فيما بعد في معظم عمله الجهادي، في حله وترحاله. ويأنس به أحمد، إلى حد نشوء علاقة وطيدة بينه وبين الحاج، تركت بصماتها في مسيرة الجريح حتى يومنا هذا... وعلى صغر سنه، لم تكن زخارف الدنيا لتجتذبه ولم يفكر يوماً بترك سوح الجهاد والسعي وراء مصالح خاصة بل كان جلُّ همه درء الخطر الصهيوني عن أرضنا التي احتلها... ومع توقف الحرب الأهلية في لبنان، حرص إلى جانب عمله العسكري، على إيصال رسالة المقاومة إلى أكبر شريحة ممكنة في المجتمع، حرصاً على بناء مجتمع المقاومة وجيل المقاومة وهو المؤمن دوماً بأن المقاومة ليست فقط سلاحاً، بل هي سلاح وفكر وقلم واحتضان وعقيدة ووعي... الخ، وليست كما رآها البعض حينها بأنها إرهاب أو ما شابه...
* الإصابة: فيض وصال
بتاريج الجمعة الواقع في الخامس عشر من أيلول للعام 1995، ولدى عودته من مهمته الجهادية أصيب أحمد إصابة بالغة، فقد على أثرها كلا كفيه وكذا بصره بالإضافة إلى حصول إصابات متفرقة في جسده. للحظات لم يغب فيها عن الوعي، سلَّم فيها أمره إلى الباري عزَّ وجلَّ وتهيأ للشهادة ولكن ما هي إلا لحظات حتى قدم الإخوة لنقله على عجل إلى المستشفى. ولم يكن يشعر حينها بوجع بل بصعوبة في الرؤية، والإخوة معه يخففون عنه عظم الإصابة. مع كل ما حدث له، لم يزعجه سوى ذهابه إلى عمله دون توديع الحاج أبي حسن سلامة كما جرت العادة والذي كان حينها في زيارة للشام، وحتى عند إصابته تمنى لو أن اللَّه يمد في عمره ولو للحظات بعد أن تهيَّأ للشهادة فقط ليرى الحاج ويودعه الوداع الأخير...
في المستشفى لم يكن ليسمع أحمد سوى أصوات التكبير والصراخ ولكنه لم يدرك حينها أنها لأجله ولعظم إصابته، حتى إذا رآه أحد الأطباء أشار إلى أنه ليس هناك فائدة من العلاج، فالجريح خلال دقائق سوف يفارق الحياة. كل ذلك على مسمع الجريح وهو راضٍ ومحتسب عند اللَّه أجره ولكن ما يقلقه عدم رؤية الحاج أبي حسن قبل أن تفيض روحه... في تلك الأثناء نفض رأسه وحرك جسده، عندها طلب الطبيب نقله إلى مستشفى آخر عله يحصل على العناية الكافية. خمس عشرة ساعة ونصف الساعة في غرفة العمليات والقلب مطمئن وهادئ يلهج بذكر الباري عزَّ وجلَّ. إحتاج خلالها إلى 74 وحدة دم وطاقم من الأطباء لمواكبته، ولكن ما أثلج صدره حينها مجيء الحاج أبي حسن سلامة فاحتضنه طويلاً وتمنى لو كان هو مكانه ليصاب بدلاً عنه. كان احتمال الشهادة هو الأقوى حينها، لا سيما وأن الجريح بقي غائباً عن الوعي مدة 25 يوماً. صحيح أنه غائب عن المحيط من حوله، لكن الأيام الخمسة والعشرين هذه، كانت فيض وصال بين أحمد وأهل بيت الرسالة عليهم السلام فلقد أنس برؤيتهم في عالم الرؤيا، حتى باتوا الأنس الحقيقي له، ومعهم بات القرب من اللَّه أكثر أنساً أو أدنى، حتى إذا كان اليوم الخامس والعشرون من تلك الغيبوبة، أتاه أبو الفضل العباس عليه السلام في الرؤيا ليمسح بيديه على كامل جسده، فيستيقظ أحمد حينها ويعود إلى هذه الدنيا وقد وسم حياته بوسام الجرح المبارك...
بعد الاستيقاظ بأسبوع أجريت له عملية جراحية علّه يعود ولو جزءٌ بسيط من نظره مع تأكيد الأطباء أن هناك نسبة 1% فقط من إمكانية الرؤية البسيطة جداً. ولكن حينها أصر الحاج أبو حسن سلامة، وهو المراقب حينها دوماً لحالة الجريح أحمد، أصر على إجراء العملية، وبعد الانتهاء منها ونزع الضماد عن عينيه لم ير أحمد بالمطلق إلى حد يئس الطبيب معه من إمكانية معاودة النظر ولو بشكل يسير، وذلك على مرأى ومسمع الشهيد الحاج أبي حسن، الذي انتظر خروج الطبيب حينها من الغرفة، ليغلق الباب خلفه ويقترب من أحمد، فيتناول ذراعه اليمنى، ويطلب منه أن يتوسل بأهل البيت عليهم السلام بنية صادقة وطاهرة حتى يفرج عنه ويعود إليه بصره. فما أن انتهى من ذلك، نزع الحاج أبو حسن الضماد عن عينيه فإذا بالجريح أحمد يرى الحاج أبا حسن ماثلاً أمامه فاحتضنه طويلاً شاكراً اللَّه على نعمته التي وهبه إياها بفضل خير خلقه عليهم السلام. وعاد ليرى الحاج أبا حسن من جديد. عندها لم يصدق الأطباء ما حدث، وكأنه ضرب من الخيال، ولكن هي أسرار عظمة الباري جل وعلا شأنه...
* الشاهد الحي
إذا كان الشهيد بشهادته يترك من وراءه ليحمل رسالته ويكملها، فإن الجريح هو الشهيد الحي، الذي يحمل رسالته بنفسه، فهذا يقين الجريح، بأن جرحه هو الوسام الذي أكرمه اللَّه به، وليفي حقه، عليه أن يكون مشعلاً ينير به الدرب لمن أراد أن يستنير به، ليبرهن للجميع بأن المقاومة كما كانت وما زالت ليست بندقية تنتهي هنا، بل إنها رسالة متكاملة، يختزن اللَّه فيها سر مكنوناته وتصل رسالتها بالفكر والقلم والعقيدة. لقد أدرك أحمد بأن جرحه هو خير دليل على التوجه برسالة المقاومة، والتي حملها منذ صغره، إلى أكبر شريحة ممكنة من مجتمعه ويبرهن بأن هذا الجرح لا يمكن أن يكون يوماً عائقاً أو حتى حجر عثرة في حياته. فالجريح أحمد درويش بعد فقد كلتا يديه أنعم اللَّه عليه بيد العون الصالحة لمؤسسة الجرحى لتحفظ أمانة أولئك الذين استرخصوا أعمارهم لتكون خالصة في طاعة اللَّه عزَّ وجلَّ وها هو اليوم يعيش أيامه وقد استطاع تجاوز عقبة حاجته للآخرين، فهو ينجز كل أموره بنفسه دون الحاجة إلى أحد، إلى حد بات موضع احترام وإعزاز وفخر من كل محيطه وكل من يتعرف إليه... كل ما أصاب الجريح أحمد يمكن قراءته في جانب من حياته والجانب الآخر يتعلق بشهادة الشهيد القائد الحاج أبي حسن سلامة.
لقد كان لتلك الشهادة الوقع المؤلم في حياة الجريح ليس لنفس الشهادة، وهي الفوز الأكبر لكل من سلك هذا الطريق، ولكن لصعوبة الفراق، خاصة إذا تعلق بمن أدخل الجريح إلى عالم الجهاد من أبوابه الواسعة. لم يكن الجريح ليخال نفسه يوماً يبقى في هذه الدنيا وقد غادرها الحاج أبو حسن، إلى حد أنه على أثر الصدمة فقد الجريح نسبة كبيرة من بصره الذي عاد له يوماً ببركة التوسل بأهل البيت عليهم السلام. كل ما قدمه الجريح يراه نقطة في بحر حزب اللَّه الكبير، والذي يمده يوماً بعد يوم بعزيمة وصلابة، لم يشعر يوماً من خلالهما أنه ترك ساحات الجهاد. فهو كان ولا زال يجد نفسه في صلب المقاومة والمسيرة، فيوم كانت قواه حاضرة، أعطى بكل ما يملك، حتى اختصه اللَّه بنعمة الجرح، وها هو اليوم لا زال يملك فكراً وصوتاً وقد تقلد معهما وساماً، كل ذلك خير معين له على مواصلة الطريق بروح واثقة بفضل اللَّه وأمله برحمته.
فهنيئاً له تلك الروح العالية، هنيئاً لنا حضوره اليوم بيننا. والكنز الذي يدخره بات مدرسة تخرج يوماً بعد يوم قوافل الحق، حتى يأذن اللَّه لوليه عجل الله فرجه بالخروج وتلتحق بالركب المبارك له، فهنيئاً له ذلك الجرح، ومباركة لنا صلابة جرحانا.