الشيخ نعيم قاسم
ختم اللَّه النبوة بمحمد صلى الله عليه وآله، الذي نشر الإسلام بقوة الدليل والبيان، وكمال الدين، وحماه ودافع عنه بجهاد المشركين والأعداء، فتكاملت الدعوة مع السيف، وحققت حضوراً وأمة تنعم بخيرات هذا الدين. وختم اللَّه الأئمة بالمهدي عجل الله فرجه، الذي يعيد للإسلام أصالته وحيويته وانتشاره، لتنعم الأمة والعالم بعدله. روي عن الإمام الباقر عليه السلام: "إذا قام قائم أهل البيت، قسَّم بالسوية، وعدل في الرعية، فمن أطاعه فقد أطاع اللَّه، ومن عصاه فقد عصى اللَّه. وإنما سمي المهدي مهدياً، لأنَّه يهدي إلى أمر خفي، ويستخرج التوراة وسائر كتب اللَّه عزَّ وجلَّ من غار بأنطاكية، ويحكم بين أهل التوراة بالتوراة، وبين أهل الإنجيل بالإنجيل، وبين أهل الزبور بالزبور، وبين أهل القرآن بالقرآن، وتُجمع إليه أموال الدنيا من بطن الأرض وظهرها، فيقول للناس: تعالوا إلى ما قطعتم فيه الأرحام، وسفكتم فيه الدماء الحرام، وركبتم فيه ما حرَّم اللَّه عزَّ وجلَّ، فيعطي شيئاً لم يعطه أحد كان قبله، ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً ونوراً، كما مُلئت ظلماً وجوراً وشراً"(1).
لكنَّ الوصول إلى الظهور لا يتم من دون ثلة مؤمنة مجاهدة تمهد له، وتمام الظهور ونشر العدل لا يتمان من دون قتال وجهاد ضد الأعداء، فكما بدأ الدين بالدعوة يحميها السيف، كذلك يكون ختمها بالدعوة يحميها السيف. فقد أثبتت القرون السابقة بأنَّ تكالب الأمم على هذه الأمة أفقدها الكثير من قدراتها وإمكاناتها ومكانتها، ولم يكن الأمر كذلك عندما سارت في درب الجهاد، وستتغير الظروف مع العودة إلى الجهاد. ومع أن الأساس هو الالتزام بإمامة خاتم الأئمة عليهم السلام، ومن ينتظره بشروط الانتظار يفزْ إن شاء اللَّه، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "من مات منتظراً لهذا الأمر ، كان كمن كان مع القائم في فسطاطه، لا بل كان كالضارب بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وآله بالسيف"(2)، إلاَّ أن التربية على الجهاد، والاستعداد للجهاد، والبقاء في ساحة الجهاد، أمور ملازمة لهذا الانتظار، كما كانت ملازمة للإسلام من بدايته وفي أصل تعاليمه. فإذا ظن البعض بأن هذا الاهتمام بالجهاد حالة استثنائية بسبب الظهور، أحلناه إلى الآيات والروايات وأقوال الأئمة عليهم السلام التي تدعو إلى الجهاد وتؤكد عليه كأصل في حمل هذا الدين ونصرته. قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة/111)، وهي دعوة صريحة لأربعة أمور مترابطة:
1- بيع المؤمنين لأنفسهم وأموالهم في سبيل اللَّه، وهو عقد يجري بالشراء من الله تعالى لقوله: "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى"، وهذا الأمر ينطبق على جميع المؤمنين مصاحباً لإيمانهم من بداية الطريق.
2- يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، فيترجمون عقدهم بشكل عملي في ساحات الجهاد كلما تطلبت ذلك منهم، وهي ليست مرتبطة بحقبة زمنية أو ظروف طارئة، وإنما هي الساحات بكل ما تمثله من حضور للإسلام والمسلمين في مواجهة أعدائهم.
3- فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ، إذ أن النتيجة غير محسومة، فَيقتُلون وهذا ما يؤدي إلى النصر، ويُقتَلون وهو ما يؤدي إلى الشهادة، وفي ذلك تعبير عن التكليف والمسؤولية بصرف النظر عن النتائج.
4- لَهُمُ الْجَنَّةَ، لأنهم قاموا بما عليهم من جهاد في سبيل الله تعالى.
ونظراً لأهمية الجهاد ودور المجاهدين، فقد كرَّم الله المجاهدين بباب مستقل لهم في الجنة يدخلون منه، وجعل تارك الجهاد خاسراً في معيشته ودينه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "للجنة باب يُقال له: باب المجاهدين، يمضون إليه فإذا هو مفتوح، وهم متقلدون بسيوفهم، والجمع في الموقف، والملائكة ترحب بهم. ثم قال: فمن ترك الجهاد ألبسه الله عزَّ وجل ذلاً وفقراً في معيشته، ومحقاً في دينه، إنَّ الله عزَّ وجل أغنى أمتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها"(3).
ولسنا ببعيدين عن خطبة أمير المؤمنين علي عليه السلام المشهورة عن الجهاد، حيث قال في مطلعها: "أمَّا بعد، فإنَّ الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه، ألبسه الله ثوب الذل وشمله البلاء"(4). فلنشحذ هممنا لنبقى في ساحة الجهاد، تمهيداً للظهور، وتعجيلاً للفرج، والتزاماً بالتكليف، فالخير كل الخير أن تتكاتف جهودنا ونحن صامدون في مواجهة التحديات، ومع أنها اليوم أصعب من السابق لكنَّها تؤكد أكثر من أي وقت مضى على أهمية الجهاد والثبات عليه، لوضوح نتيجة التخاذل في سيطرة أعداء البشرية من المستكبرين على الأمة ومقدراتها وخيرات العالم، وهؤلاء لا يرحمون ولا يرون الدنيا إلاَّ غاية آمالهم ولو سحقوا الجميع لتحقيق أطماعهم ورغباتهم.
(1) الغيبة للنعماني، ص237.
(2) كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق، ص338.
(3) الكافي للشيخ الكليني، ج5، ص7.
(4) نهج البلاغة، الخطبة الجهاد.