عبد اللَّه الدهيني
وقفت أتأمل بخشوع ذلك الجسد الهادئ ، والابتسامة ترتسم على شفتيه كطفل يعانق حلماً جميلاً، ورأسه يتوسد حِجْراً احتضنه بحنان، وكم احتضنه من قبل عندما كان طفلاً. كفّان حانيتان تمسحان الدم والتراب عن ذلك الوجه الباسم بهدوء، وكأنَّهما تمسحان وجه طفل لوَّثه بالحلوى. تأملت ذينك الكفّين بدقة علَّني أجد فيهما بعض ارتعاش يفرضه الموقف. صعدت بنظري إلى الوجه الذي تخيلته مصفراً، حدّقت بالعينين اللتين من الطبيعي أن تكونا دامعتين، وفي كلِّ محاولاتي لم أجد شيئاً مما توقعته.
ربَّما بدا هذا الأمر طبيعياً لو كانت هاتان الكفّان، أو العينان، أو هذا الوجه لامرأة غريبة أجبرتها الظروف على عيش هذا الموقف. وقد كانت بالفعل تعيش مثل هذه المواقف كلَّما سمعت صوت تبادل النار مع الموقع القريب من بيتها حينما كانت تخرج بملء إرادتها كما خرجت هذه الليلة لتقديم المساعدة بإسعاف جرحى المقاومة، ونقلهم إلى بيتها، ولكن غير الطبيعي أن هذا الذي كانت تساعد بإسعافه هو ابنها نفسه، وقد احتضنت رأسه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهذا ما جعلني أجد موقفها غريباً، كما أنه السبب نفسه الذي جعلني قبل قليل أتمنى أن لا تخرج من بيتها، فهل كانت تتصور أنها ستقف هذا الموقف، عندما خرجت من بيتها في تلك الليلة بعد سماعها صوت تبادل النار مع الموقع المطل على قريتها، الواقعة على تماسٍ مع القرى المحتلة، والمواجهة لبيتها؟
ما الذي كان يدفعها إلى الخروج من بيتها في مثل هذه الحالات؟ مع أنَّه من المفروض عليها الاختباء وراء جدار سميك ليحميها من رصاصة طائشة؟ هل كانت تتوقع يوماً أن تحتضن رأس ابنها وهو يسير نحو المطلق؟ وهي العالمة بأنَّ ابنها كان يعمل مع القادمين من وراء الأسوار؟ من المؤكّد أنَّها كانت تتوقع حدوث ذلك يوماً ما، ورغم ذلك فهي لم تتخلَّف عن الخروج مرَّة واحدة من قبل، ولم تتوقف عن الخروج فيما بعد، وكأنَّ ما حدث بين يديها لم يكن صعباً. لم أكن الوحيد الذي تمنّى عدم خروجها في تلك الليلة، ولدها تمنّى ذلك أيضاً، فقد كان يعلم صعوبة الموقف رغم معرفته بمعدن أمّه الصلب. لقد أحاط عملية انسحابه زاحفاً بعد إصابته، بالسريَّة التّامة، فحتى نحن وكنا لا نزال مشتبكين مع الموقع لم نشعر بانسحابه من بيننا، حيث لم تصدر منه حتى صرخة ألم، أو أنين، لأنه لم يشأ أن يشغلنا به عن مواصلة ما نحن فيه. وأراد في الوقت نفسه أن لا تشعر أمه بوجوده رحمة بها من مواجهة هذا الموقف الذي تصوره صعباً عليها. أمنيته لم تتحقق، ولم يعلم بذلك، لأن الكفّين عندما رفعتا رأسه إلى حجرها كان هو قد غاب عن الوعي لكثرة ما فقد من دم نزفته جراحه. هي أيضاً لم تصرخ أو تبكي، ربما خافت أن توقظه من حلمه الجميل في تلك اللَّحظات، أو تعكر صفو هدوء كان بحاجة إليه لعبور الخط الفاصل بين الحياة الفانية والحياة الأبدية بسهولة، أو خافت أن يشعر بوجودها فيتألم، وتغيب الابتسامة المطبوعة على شفتيه. كانت هناك روحان في تلك اللحظات هائمتان، تتناجيان بشغف وشوق، وقد فهمت إحداهما ما تريده الأخرى، فتركتها تمارس تحليقها في عالم المطلق كما تشاء. لقد قامت بالعمل نفسه الذي قام به هو، وأحاطت نفسها بالسرية والكتمان، فلم تشعره بوجودها. كل ما فعلته هو أنَّها وضعت رأسه في حِجْرها، كي يكون وسادة له للمرة الأخيرة قبل أن يغيب عنها إلى يوم اللقاء بين يدي اللَّه.
ترى ماذا كان يدور في خلدها في ذلك الوقت؟ ومن أين استمدَّت تلك القوة وذلك الصبر؟ هذا السؤال الذي حيَّرني منذ البداية، منذ اللحظة التي وصَلْتُ فيها إليها لأراها في ذلك الموقف الذي تمنيته أن لا يحدث، ولكن عندما حدث بالفعل، تزاحمت تلك الأسئلة في ذهني، ولم أجد جواباً على ذلك إلا فيما اختزنته الذاكرة من حكاية مَنْ توسد الثرى يوماً، وأخته التي قامت بالشيء نفسه منذ قرون، ولم أكن أتصور أن ذلك الحدث سيترك هذا الأثر في النفوس إلا بعد أن رأيت ما رأيت. ولكن من قال إن الزمن سيمحو من ذاكرتنا ذلك الحدث؟ فقد تسمع قصة ما تؤثر فيك، ولكن قد تنساها بعد حين. أما ما حدث منذ قرون، وما قامت به زينب عليها السلام، لم تستطع الأيام بكل ما حبلت به من أحداث أن تجعلنا ننساه. وكيف ننساه ونحن نحج إلى تلك الأرض بأرواحنا كل عام نجدد فيها الذكرى، ونعيش القصة بكل تفاصيلها من جديد، ونتعايش مع أبطالها بالدموع. إنها حقاً عصية على النسيان... فكيف ننسى تلك المرأة وهي تقدم الجواد ولأمة الحرب لأخيها وهي تعلم أنها لن تراه ثانية. بل كيف ننسى أنَّها وضعت رأسه في حِجرها وقدمته قرباناً على مذبح عشقها وعشقه للمطلق. من المؤكد أن تلك الذكرى العصية على النسيان، هي التي منحت هذه الأم قوة الصبر على مواجهة الموقف رغم صعوبته. فمسحت الدم والتراب عن وجه ولدها، ووضعت رأسه في حِجْرها لتتواصل مع المرأة التي كانت القدوة لأمهاتنا وأخواتنا طيلة قرون. ولكن يا ترى هل تمتمت شفتاها في تلك اللحظات (اللهم تقبل منا هذا القربان)؟ كل ما أعلمه أنَّها كانت نموذجاً آخر للنساء اللواتي لولا صبرهن ما تحقق النصر.