نسرين إدريس
الاسم: محمد حسن غانم
اسم الأم: سميحة نعمة
محل وتاريخ الولادة: عيناتا 28/5/1969
الوضع العائلي: عازب
مكان وتاريخ الاستشهاد: بيروت الضاحية الجنوبية 24/11/1989
وماذا نقول؟! ثمة ما لا يقال... عندما نجد الروح تحلّق في زواياهم كفراشات الصبح المشتاقة لنور الشمس تلوّن بأجنحتها الشفافة حدود الهواء، حينها يصبح الشوق غصَّة، والذكرى شمعة تذوي أمام القلوب الحائرة التي لا تخشى الاحتراق.... لم تكن ليلة عادية عندما ولد، بل هي أعظم ليلة، ذكرى ولادة الرسول محمد ا... ولم يكن المولود طفلاً عادياً؛ أسموه محمد، ولقنوه ولاية علي د، وقلّدوه شهادة الحسين د... فكان محمدي الأصول، حسيني العشق، خميني المصير...
في بيتٍ محافظ بين أبوين مؤمنين وأخوة تربوا على تعاليم القران، كان محمد الفتى الهادئ الطيب، كلما تلفّت أحس الناس بسر غريب في نظراته، وكيفما تحرك شعروا أن سكناته تعزف على أوتار حياة أخرى، لم يحاول أحد معرفة هذا الشعور الغامض الذي ينتاب المرء عند النظر إلى وجهه، ربما لأنهم جميعاً كانوا يدركون أن "سيماهم في وجوههم"... وكما يعامل الضيف أرباب البيت، عامل محمد أمه وأباه وأخوته، فقد كان يقوم بكل شيء بنفسه، يغسل ثيابه، يهيئ طعامه، يعمل حتى يتابع علمه، علمه الذي كان بالنسبة إليه سلاحه الآخر الذي يحارب به من أجل طريق اختاره بملء إرادته... المحبة التي اكتنزها للناس، لرفاقه، هي كنزه الذي لن يفنى... محمد المتميز بإيمانه العميق، وعلاقته المميزة بخالقه رب العالمين، كان أسوة ومثلاً يُضرب لأبناء جيله... عندما بلغ الرابعة عشر من عمره، اعتبر نفسه وصل إلى عمر التكليف، لكنه كان تكليفاً من نوع اخر، تكليف الجهاد، فسارع بسرية للالتحاق بإحدى الدورات العسكرية دون أن يخبر أحداً من أهله، ذلك أن والده كان يتمنى دوماً أن لا يهتم محمد إلا بدروسه حتى ينهي دراسته الجامعية... وفي أوج الحرب اللبنانية، انتقلت الأسرة من بيروت إلى الجنوب، ليرى محمد الفتى عن كثب الجنود الصهاينة المذعورين من كل شيء إثر الضربات القاسية التي وجهتها إليهم المقاومة، وليلامس تحت جنح الظلام بأس المجاهدين الذين عشق أن يكون معهم، فعقد العزيمة وتوكل على اللَّه...
لم يخلف محمد بوعده لأبيه، أن يبقى من المتفوقين في دراسته كما عهده دوماً، ولم يستطع في المقابل أن يكون في صف المتخاذلين، وكيف يكون كذلك، والعشق الحسيني يغلي في شرايينه... بين الدورات الثقافية والعسكرية، والمرابطة والمشاركة في العديد من العمليات الجهادية، عُرف محمد بالشجاعة والإقدام، وكلما غاب عن المنزل للمشاركة بعمل عسكري أخبر أهله أنه يدرس مع رفاقه حتى لا يلفت الأنظار إليه، وعندما صار في الجامعة كلية العلوم السياسية، أصبح داعيةً بين الطلبة يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحث الفتيات على ارتداء الحجاب، وكان صاحب فكرة سديدة ونصيحة رشيدة تقع في القلوب قبل وصولها إلى الأذن، فكان بذلك محط أنظار التلامذة المتشوقين لسماع مواعظه من جهة، ومن جهة أخرى ليبثوا له هماً يرزحون تحته فيستمع ويعي ويواسي... أجمل الأعياد التي كان يواظب على إحيائها بأجمل الشعائر هو ولادة السيدة فاطمة الزهراء ي، ففي يوم مولدها يصبح رجلاً اخر، السعادة تغمره، ويتحير كيف يضفي السعادة على كل من حوله، وهو يتمنى في كل لحظة أن يجعله اللَّه معها في الجنة... من جبل صافي، إلى المحاور المتقدمة، إلى المواقع، إلى الجامعة، كان ابن المقاومة الإسلامية الذي حمل أمانة الشهداء والمجاهدين، وكان يتفاخر أمام زملائه بأن اللَّه منّ عليه ووفقه ليكون ضمن الصفوف التي اختارها إلى جواره، فكان يتحمل الأذى والغربة والنفي بابتسامة عريضة، ورأس مرفوع عالياً... في إحدى العمليات العسكرية التي شارك بها، جلس المجاهدون في عتمة الليل ليتناولوا آخر وجبة لهم قبل البدء بالقتال، وكان لزاماً عليهم الأكل ليقاتلوا، وعند تناول اللقمة الأولى شعر أحدهم بطعمٍ غريب، فأضاؤوا بمصباح صغير بعدما شكلَّوا دائرة تمنع تسرب الضوء، ليجدوا طعامهم قوتاً للحشرات! وهذا مشهد من عدة، تحمَّل فيها المجاهدون ما لا يستطيع بشر عادي تحمله في سبيل الجهاد...
بقيت روحية محمد الجهادية والإيمانية في تطور، إذ عمد إلى بناء شخصية صلبة، متحملة للمسؤولية، مجاهدة في كل ميادين الحياة، فكان يرفض أن تقوم والدته بأدنى خدمة له، فهو يقوم بكل شيء عنها، وكانت هي في المقابل تراقب كل تصرفاته التي غالباً ما لا تفقه منها سوى الظاهر المحيِّر، وقد استغربت مرة من عدم رؤيتها له يقوم لصلاة الصبح مع أنه من المحافظين على أداء الصلاة في وقتها وارتياد المسجد، إلى أن قامت ذات ليلة، لتراه في إحدى زوايا البيت وقد قارب الليل على الانتهاء، باكياً شاكياً منادياً مولاه العفو والمغفرة، ولم ينم إلا بعد أن صلّى الصبح بعد ليل أحياه بالصلاة والدعاء. دافع الشهيد محمد عن انتمائه بكل من أوتي من قوة، وأعطى المقاومة الإسلامية كل حياته، واحترم رأي أهله وخياراتهم، وساعد إخوته ورفاقه على تحمل مصاعب الحياة، وكانت بسمته اللطيفة ضماد الجرح النازف في قلبه، الجرح الموغل في أعماق نفسه، ولم يدرِ أحد مدى الوجع الذي كان يقتات عمره وهو ينتظر لقاء اللَّه عند زاوية كل لحظة... بعد غياب طويل عن المنزل، عاد ليخفف من حدة الشوق في قلوب أهله، كان دوماً قبل تخطيه عتبة البيت يطلب من أمه الرضا، وهي تترضى عنه... في ذلك النهار نظر إليها وغادر بهدوء غريب، وكأنه كان يدري موعد لقائه مع حبيبه... وكعادته في كل يوم اثنين وخميس كان صائماً في ذلك الخميس، وكان يعبر الطريق أثناء توجهه لتأدية تكليفه عندما نالت منه رصاصات الغدر لتكتبه شهيداً وشفتيه تلهجان باسم "الزهراء عليها السلام"... صلّت والدته سجدتي شكر للَّه كما أوصاها، وتصبرت على رحيله بصبر العارفين، وسيبقى محمد الطيف الذي لا يغيب، يتنقل بين الروح والقلب حيث موطنه الحقيقي.. ؟