نسرين ادريس
سلب حديث المقاوم عن الذكريات التي تضج بها المغارة الضيقة، لبّ مصطفى المتكئ على حائطها، غير عابئ بالنتوءات الصغيرة التي وخزته، وهو يلاحق بنظراته المشاهدات والمواقف التي راحت يدُ المجاهد ترسمها على الهواء. كانت الرحلة مع النادي الصيفي إلى محاور المقاومة فرصة لا تفوت، فمصطفى ورفاقه البالغون من العمر ثلاثة عشر عاماً يتشوقون للتعرف على حياة المجاهدين عن قرب. وإذا كان كل واحد منهم قد التقط القليل من المعلومات وظنّ أن ما سيراه ترجمة لها، فإن ما رأوه من حقيقة لم يدركها خيالهم، فتلك السفينة التي نشرت أشرعتها في بحرٍ أنواؤه عاتية، لم تكن لتصل إلى شاطئ الأمان، لولا أن قلوب بحارتها تعلّقت بنور منارة الكون صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه، فكل تلك المصاعب والمتاعب التي تحمّلها المجاهدون كانت تعكس سعادةً مطلقة في قلوبهم النقية، التي استراحت على شاطئ جوده عجل الله تعالى فرجه.
".. القوة تنبع من القلب المفعم بالحب، والحب طريق اللَّه، فمن سار في طريق اللَّه لم ترَ عيناه الأهوال سوى موج سرعان ما يتكسر زبده على صخور الصبر.. هنا، في هذه المغارة، قضى العديد من المجاهدين أياماً بلا طعام أو شراب، وعلى ترابها سقط رفاق شهداء.. في الليالي الباردة، والأيام الحارة، كانت تمر الشهور والأهل عنا بعيدون ولم نشعر بالغربة، لأننا جميعاً كنا نمد أيدينا إلى عتبات الغريب الأكبر عجل الله تعالى فرجه، المنتظر منذ زمن الأيدي المجاهدة، والذي بدون طلعته الغراء نصبح جميعنا غرباء في بحر الظلمة حيث لا مكان للشمس".
نكس الجميع رؤوسهم احتراماً للحظة استحضار صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه. ولمح مصطفى دمعة لمعت في عين من يقبض بصلابة على زناد السلاح، فأغمض عينيه، ليرى عالماً آخر يفتحُ في داخله بوابة العبور إلى النور، فهمس الصمتُ في قلبه بصدى كلمات المجاهد: "إنها وحي للقلوب"، ثم فتح أهدابه ليجول ببصره في أرجاء مغارة الجهاد فاستذكر مغارة الوحي، حيث نودي رسولنا محمد صلى الله عليه وآله للمرة الأولى ب"لتشرق شمسُ التوحيد في أرجاء غار حراء، فيكون خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله الذي أخرج البشرية من ظلام الجاهلية، إلى نور اللَّه، ولترى الأمم على اختلافها الدستور الأوحد لسير الإنسان نحو الكمال الذي ينشده..". عندما سجد النبي محمد صلى الله عليه وآله في غار حراء، صارت الشمس والأفلاك تُسبّح حوله للَّه، وخرج من هناك وفي يده مشعل الهداية الذي استقر في كبد السماء. وهنا في مغارة الجهاد، خرج الذين استقوا من نور الرسول صلى الله عليه وآله لينشروا ضوء الحرية على وجه الوطن بعد زمن من الظلم والاضطهاد وليكون سلاحهم مشعل الاستقلال..
خرج مصطفى من المغارة، لتبسط الشمس أشعتها الرقيقة على وجهه، نظر إلى السكينة من حوله وصوت العصافير المنطلقة في فضاء السلام تحمل على أجنحتها أحلام الغد، فرأى الدنيا من حوله تنبضُ بالطمأنينة، وكأن قلوب المجاهدين هي التي تضخ في شرايينها الحياة. أغمض مصطفى عينيه، فمرت من أمامهما مشاهد الظلم الممتد من فلسطين إلى العراق، إلى كل أصقاع الأرض؛ أطفال ونساء وعجائز يُذبحون بسيف الظلم والجوع، ودبابات الاستكبار تسحق أجسادهم الطرية؛ إنها الأرض التي ملئت ظلماً وجوراً، وأيدي المستضعفين ممدودة ناحية السماء تستجدي الفرج.. تراجع مصطفى ببطء ليقف على باب المغارة، وقد بدأ رفاقه يتسابقون للصعود إلى الباص، وقف قليلاً، فشعر بيدٍ تضغط بلطف على كتفه، أدار وجهه، ليرى الوجه المموه مبتسماً له؛ كان شعلةً من الشمس؛ الشمس التي ستخرج من باطن المغارة، لتملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.