الشيخ حسين كوراني
* خرافة أن الغيب خرافة:
لا ينقضي العجب من خرافة أن الغيب خرافة، فهي أشد تيهاً وضلالاً من غثاء بعض المتفلسفين الذين أنكروا الوجود برمته، واعتبروه خيالاً، لا غير، فهؤلاء لم يصدقهم أحد ولا هم صدقوا أنفسهم إلا في قوة المراء والجدل العقيم، أما أولئك فقد صدقوا أنفسهم، وراح الكثيرون ضحيتهم. كما ينظر الجاهل إلى جهاز التحكم عن بعد يشغل التلفاز ويغلقه، ويدير محرك السيارة ويقودها بدون سائق، أو يتحكم بوضعية مرآة في مركبةٍ فضائية رغم البعد الهائل، فيرمي ذلك بالشعوذة والخرافة لأنه لا يفهم الآلية العقلية التي تمكن من فعل ذلك وما هو أعظم منه بكثير، كذلك هو حال من يرمي كل ما خفي عليه وجه العقلانية فيه بالخرافة. وهل يعني ذلك أن نقبل كل ما لا نفهمه؟! بل هو يعني أن لا نرفض ما لم نحط به علماً، ونذره في دائرة البحث، فإن قام الدليل على إمكانه قبلناه، وإلا ضربنا به عرض الجدار وجزمنا بأنه خرافة. أما أن نجعل من جهلنا ومزاجنا مقصلة تندقّ عليها أعناق الحقائق لأننا استغربناها، فذلك هو الإمعان في سفَه الخرافة وتهافتها.
* نشر ثقافة الغيب، والمقاومة:
ولئن كانت المقاومة العسكرية للمحتل، مضنية ومكلفة، لأنها السباحة عكس التيار والإعصار، فإن نشر ثقافة الغيب أشد ضنىً وكلفة، فليست غربة المقاومين بالسلاح إلا لأنهم أسسوا انطلاقتهم على مدماك غيبي: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾. عندما يشرب الأكثرون من نهر الجنون، ويغدو العقل كأنه النشاز، لا يبقى غير الغربة وطناً، والأسنة مركباً، والجنون تهمة وحكماً مبرماً! ألم يُرمَ المصطفى بالجنون؟ ويفرض مبدأ الانقلاب على الأعقاب كسنة إلهية اجتماعية أن يهيئ المقاوم في ساحة قدس الغيب نفسه بكل ما استطاع من قوة ورباطة جأش لعصف الغربة وطول ليلها المقيم. ما أكثر الذين يمدحون المقاومة ويتغنون بإنجازاتها، ثم تدور الدائرة على المقاومة بهم وعلى أعتابهم؟ وترقى المقاومة التي يجسدها الدفاع عن العقل الخالص من لوثة اعتبار الاستغراب دليلاً والقصور حجة، وعدم الوجدان مسوغاً للجزم بعدم الوجود، إلى موقع المفصل بين العمل التغييري وبين التوفيقي الترقيعي. نحن نعيش في عالم يصر بمعظم حركته المهيمنة على أن الوجود صدفة، وأن الإنسان يموت فيفنى ويعدم، وأن الغريزة هي الغاية والحَكم، وأن المجون هو الحرية، وأن الحامي والمؤتمن، هو اللص، وأن له حق النقض، ومحاربة الوصول إلى القوة بالقوة، ويراد لنا أن نذعن ودون أدنى تساؤل بأن هذا هو عين العقل و ذروة حقوق الإنسان والديمقراطية، وقمة الحضارة! ومن لا يستسلم لهذا التشوه فهو رجعي ومتخلف، لا سبيل إلى إقناعه بالحضارة إلا بقذائف السبعة أطنان وأخواتها! وليس هذا إلا عين العقل، ومن لم يمحضه خالص الود وصافي الإنتماء فهو المجنون! في مثل هذا النكد المعولم ينبغي أن يقرر كل منا هل يستسلم، أو يقاوم؟ والمدخل إلى المقاومة الحقيقية هو الإيمان بالعقل أي الإيمان بالغيب. وما زال الشوط في بداياته، والمضمار طويل، والمدى بعيد. وعندما يحين موعد نهاية التاريخ، تشرق شمس هذه الجوهرة الإلهية: إنسانية الإنسان، لتسطع أنوار الغيب فإذا هو الغيب العقل لعالم الشهادة كما هو العقل الغيب للجسد المشهود.