مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

قصة العدد: نبتة الصبار

نسرين إدريس

 


لم أسأل نفسي يوماً لماذا أحب هذه النبتة بالذات؟ فهي بما تحمله من شوك، ومنظر يكاد يكون غريباً، لا تلفت الأنظار. ولكني ببساطة أحببت كثيراً نبتة الصبار تلك، الصغيرة الحجم التي كنت أضعها على مكتبي، بكل الذكريات الجميلة والأليمة التي رافقتها، في تلك الغرفة التي لم يتبقَّ منها سوى مفتاح يرزحُ تحت ظُلمة حقيبتي، كما ترزحُ الغرفة تحت أنقاض المبنى المدمر. في الحقيقة لم أشعر يوماً بالانتماء إلى تلك الغرفة. ولكني لم أكرهها. فثمة تفاصيل صباحية معها كانت تعنيني جداً. وربما حرصتُ على بناء ذكريات معها، لأنها كانت وفية لوحدتي. فذلك المفتاح الذي ما إن يفكّ صمت قفل بابها حتى أتوجه مباشرة إلى النافذة الخشبية القديمة لأفتحها على مصراعيها، فتنسدلُ صفحة الشمس الرقيقة بهدوء إلى الداخل.

لكم أحببت "درفتيها" الخشبيتين القديمتين جداً. وكم هو مؤثر مشهد الشتاء آتياً من خلف إطارها كأنه لوحة من بكاء. لم يشاركني أبداً في تلك اللحظات الصباحية الجميلة سوى نبتة الصبار في الآونة الأخيرة. ولطالما كنتُ أفضِّل أثناء كوني وحيدة في تلك الغرفة أن أتناول فطوري وأنا واقفة بالقرب منها، أضع كوب الشاي الساخن على حافتها، لأستشعر لطف الشمس، قبل أن أعود لأزرع رأسي بين أوراق العمل المملة. عندما قررتُ شراء نبتة الصبار، رحتُ أبحث بحماسة شديدة عن واحدة تعجبني، أو بتعبير أدق، عن نبتة أحبها. لا زلتُ أذكر كيف قضيتُ طيلة فترة ما بعد الظهر أبحث عن واحدة في الضاحية، حتى وجدتُها. صغيرة الحجم وجميلة، أتيتُ بها صباحاً إلى مركز عملي، لأضعها على مكتبي وأعرفها على أسراري الصامتة. ومنذ تلك اللحظة، شاركتني تلك النبتة نافذتي ووحدتي وفنجان القهوة المرة صباحاً. لطالما همستُ في سرّها في الأيام الأخيرة عن رغبة مكنونة بأن يتغير شي‏ء ما في حياتي، أي شي‏ء! وكنتُ أشعر بأن شيئاً ما سيحدث، لم أعرف ما هو، ولم أجرّب (التنبؤ) بما يمكن أن يكون، غير أن دبيب ذاك الشي‏ء الصامت في نفسي أقلقني، وجعلني رهينة انتظار مجهول كلما اشتد خناقه علي، نظرتُ إلى نبتتي الصغيرة، ولامستُ أشواكها الناعمة ببطء لتهدئ من روعي. جاء الإثنين وبعده الثلاثاء بتثاقلٍ غريب، وكأن ساعاته تحزُّ أعصابي بسكينٍ لا يقوى على جرح أوراق الورد. ولم أدرِ كيف نبتَ القلقُ والحزن بداخلي. أو ربما كنتُ أعرف، ولكني حتى الآن أتهرّب من المواجهة مع نفسي. ولكن ما الفرق! في نهار الأربعاء الثاني عشر من تموز، وفيما كنتُ منهمكة بالعمل، ورد خبر عاجل عن أسر الجنديين الإسرائيليين، فقربّت وجهي من شوك نبتتي الصغيرة وهمستُ لها: " أخيراً!"، وسارعتُ إلى النافذة، فتحتها لتدخل الشمس، وشعور الغبطة ارتسم على وجهي ابتسامات عريضة، وأنا أشكر اللَّه.

بدأت أصوات المفرقعات تطغى على الأجواء، والفرحة الكبيرة بهذا العمل البطولي الرائع شلّ قدرتي على القيام بأي عمل سوى متابعة الملاحق الإخبارية، ولأول مرة تمنيت لو أن نافذتي تطل على الطريق لكنتُ رأيت بعض الاحتفالات المرتجلة من الناس الفَرِحة. عند الحادية عشرة والنصف صباحاً، غادرت العمل، أخذت حقيبتي ورتبتُ بعض الأغراض على عجل، وأوصدت كل شي‏ء. وما أن هممت بإقفال الباب، حتى وقع ناظري على صديقتي الصغيرة، "لقد كدت أنساك على المكتب" قلتُ لها. حملتها بسرعة وأنا أعتذر إليها بصمت، وفتحتُ الشباك الخشبي لأضع نبتتي على حافته لتشرب الحياة من ضوء الشمس. وخرجتُ على أمل اللقاء في الغد ككل يوم. وفي الطريق، كانت الأعلام الصفراء تطغى على ضوء شمس تموز. الناس تهنئ بعضها البعض، وضجيج صاخب سيطر على الجميع. ضجيج كسر صمتي بفرحة غريبة. وهبط الليل بقلقٍ آخر، وترقبٍ جديد. وولد فجرٌ من بين قذائف طائرات الغدر. كانت الحرب. وأخذت الأيام تقلّب بعضها بالمآسي والانتصارات. في اليوم الخامس، قصفتْ الطائرات الحاقدة مكتب العمل، وانهارت الغرفة التي لم اشعر يوماً بالانتماء إليها، ولكني لم أكرهها، ومعها الشباك الخشبي القديم، الذي على حافته تستريح نبتة الصبّار، ومعها كل ذكرياتي لتدفَن تحت الركام. سعدتُ لأني لم أنس نبتتي داخل الغرفة، وأني كنتُ وفية معها حتى النهاية. ويوماً بعد يوم كثر الأحبة تحت الركام إلى نهاية العدوان الغاشم. ولم يخطر في بالي لحظة أسئلة تراود النفس عندما يفقد مَنْ وما يحب: إننا عندما نفقد جزءاً من محسوسات ذكرياتنا، أو عندما يتغير مكان ذكرياتنا، تضيع منّا أشياء ربما لم ننتبه لأن نشعر بقيمتها أثناء وجودها معنا. ربما نحتاج دائماً إلى الندم؟ وربما أدمنّا على تقليب كفي الحسرة بصمت!! كدت أن أرزح تحت أنقاض من الحزن، وأنا أعبر طرقات الضاحية من جديد، ليس بحثاً عن نبتة صبّار أحبها، أو نافذة أشرعها للريح، بل عن الضاحية نفسها، حيث الدهشة إطار لصور الدمار الرهيب، لولا أن الاعلام الصفراء ظلّت ساطعة أكثر من الشمس في كل الفصول. وقفتُ هناك، أجمع بقايا ذكرياتي. وتناهى إلى سمعي صوت المحتفلين بالنصر وكأنه يمتزج بصوت المزغردين للأسر.

شعرت بابتسامة عريضة تحرك خدّي المبللين بالدموع: "لن يتغير مشهد الانتصار عندنا، فالمباني لا تغير في قلوب الناس شيئاً". كان الدمار خلفي، وأنا أعبر نحو زمنٍ جديد: إنا نحبُّ زحمة السير في طرقاتك يا ضاحية. نحب تعودنا على الاهمال الطويل من الدولة لك وشطبها لك عن خريطة سيادتها لأنها تشعرنا بأنا أحرار دوماً. فنحن نحبك كما أنتِ دون مساحيق تجميل. وحتى وأنت تحت الركام، لا زلنا نراك جميلة جداً!! نحب ذكرياتنا معك، الصغيرة والكبيرة. إنكِ الأجمل دوماً يا ضاحية. حتى وأنتِ تحت الركام. أنتِ الأجمل.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع