الشيخ يوسف سرور
تتوافد الروافد من كل الجهات... تخرج ذراتها، حباتها.. تأتي متدافعةً، تتسابق، تقدّم كل واحدة منها مساهمتها في تشكيل ماهية جديدة، تنحدر من علٍ، منسابة تتهادى... تتدفق بكل إقدام وحماسة لتلتحم في هذا المجرى الهائل الذي يسمى نهر الحياة. تُخرج الأرض خبئها، تتفتّح رياحين الأمل... تتفتّق أزاهير الوجود... تجهد الطبيعة بكل عناصرها، تظهر كل براعتها، تبذل كل ما في قدرتها والقوة..
تتقافز قطرات الندى، المحمولة على متن النسائم الموهنة، لتحط حملها فوق براعم، معلنة بشرى جديدة. تتضافر العناصر، متشكّلةً في عسكرٍ يجاهد باذلاً نفسه حتى آخر رمق، في سبيل الخروج من مخاضات الألم والعصف الثائر لأشياء الكون المتفانية... هي إبداعات التجدد... على موعد اللقاء في كل عام... نَهْبُ العوامل ينتشر في كل الأرجاء، لينال من كل موجودات الأرض... ينسحب على كل الكائنات فيها،... برداً يسري ليستقر في أعماق الأعماق... عواصف معلنةً كل جنونها، انفلاتاً صاخباً يكتنف بتأثيراته كل كيان... مطراً حَلاَلاً دفّاقاً يصيب كل أعضاء الحياة... جماداً... حجراً... شجراً... بشرا.. تتعاظم اليوم أدوات هذا الجسد الكبير، الذي يشكّل كل عالم من عوالمه مجموعة متشاكلةً... منخرطة في مسيرته الأزلية... ناذرة وجودها بصدق، مشاركة في السباق السنوي المعهود... متنافسة على البذل والعطاء من أجل عالم متجدد في سيرورة لا تكلّ ولا تني... مقصدها نحو الأبد... هذا الكرنفال العظيم يأتي... مخلِّفاً كل ضحاياه... قرابين على مذبح انفتاح الآفاق نحو عالم جديد... ظهورٍ جديد... يومٍ جديد... مزهواً بطلعته الغراء... تُباهي مفرداتُه مفرداتِه... في انبعاثة بهية من الأريج المسحوقةِ دونه كل رياح الماضي وأحيائه... من الطيف الزاهي ألواناً نقيةً... تحاكي بصفائها صفاء قلوب الأطفال... تماثل بتلونها المخملي الأنيق، براءة أولئك المنتشين باحتدام المشاعر والآمال العريضة في زوايا نفوسهم... إنه المخاض الذي تعبّر فيه الطبيعة عن كل آلامها الممزوجة بصرخات الرعود، وصيحات العواصف، وحراك الاندفاع.
إنها الولادة... التي تسكب فيها يد الغيب مسحة الجمال على الكائنات في سطوع أفق جديد لأهل الأرض، تحمل فيه البِشْرَ للبَشَر، والحياة لكل الأحياء. إذاً، هي الأم، الحاملة كل آلامها والآمال، الحانية على بذرتها، ناثرةً عليها كلَّ معاني الحب والعطف والحنان، باذلةً دونها كلَّ دعة وراحة... تندفع في عطائها بكل إقدام ومرح... وفرح... تراها تتصرف كالصبية، تنحّي المعقول جانباً، تخاصم منطق الأشياء، مخالفة العادات. تُقدِم... تقدّم غير منتظرة أي بدل، سوى ابتسامة تنفرج عنها أسارير وليد، يكحل عينيها بأمل جديد وفجر جديد... بلون جديد من ألوان الحياة... تعطي دونه كل الأنفاس والأحلام... تعطي دونه كل الحياة. إنه المعلم... الحاني على أبنائه... طلابه، مقدماً لهم كل ألوان الرعاية والعطف والمحبة، يحني هامة الكبرياء، سنبلةً مثقلةً ليس فيها غير معاني الخير والعطاء. إنه المعلم المخلص... المتفاني في سبيل صياغة لون جديد من ألوان الحياة... باحثاً في تراب النفوس عن تبر العقول والقلوب، ليسطع في جنباتها نوراً متوهجاً يضيء أنفاق الحياة، في عام من المخاض، الممزوج أيضاً بالآلام والآمال... ليُخرج في آخر المطاف إنساناً جديداً يضخ في القلوب نوراً، وفي العقول علماً، وفي النفوس سكينة وطمأنينة تتهاوى دونها كل عواصف الحياة.