إن الإنسان ما لم ينتبه إلى أنه مسافر، ولا بُدَّ له من السير، وأن له هدفاً وتجب الحركة نحوه، وأن البلوغ إلى المقصد ممكن، لما حصل له العزم والإرادة للتحرك.
* حذار من نسيان الآخرة
يجب أن نعرف أن من أهم أسباب عدم التيقظ الذي يؤدي إلى نسيان المقصد ونسيان لزوم المسير وإلى إماتة العزم والإرادة هو أن يظن الإنسان أن في الوقت متسعاً للبدء بالسير، وأنه إذا لم يبدأ بالتحرك نحو المقصد اليوم، فسوف يبدأه غداً، وإذا لم يكن في هذا الشهر، فسيكون في الشهر المقبل. فإن طول الأمل هذا وامتداد الرجاء، وظن طول البقاء، والأمل في الحياة ورجاء سعة الوقت، يمنع الإنسان من التفكير في المقصد الأساسي الذي هو الآخرة، ومن لزوم السير نحوه ومن لزوم اتخاذ الصديق وتهيئة الزاد للطريق، ويبعث الإنسان على نسيان الآخرة ومحو المقصد من فكره. ولا قدّر اللَّه، إذا أصيب الإنسان بنسيان للهدف المنشود في رحلة بعيدة وطويلة ومحفوفة بالمخاطر مع ضيق الوقت، وعدم توفّر العُدَّة والعدد رغم ضرورتهما في السفر فإنه من الواضح أنه لا يفكر في الزاد والراحلة، ولوازم السفر، وعندما يحين وقت السفر يشعر بالتعاسة، ويتعثر ويسقط في أثناء الطريق، ويهلك دون أن يهتدي إلى سبيل.
* الزاد قبل الرحيل
إعلم إذاً أيها العزيز، أن أمامك رحلة خطرة لا مناص لك منها، وأن ما يلزمها من عدّة وعدد وزاد وراحلة هو العلم والعمل الصالح. وهي رحلة ليس لها موعد معين، فقد يكون الوقت ضيقاً جداً، فتفوتك الفرصة. إن الإنسان لا يعلم متى يقرع ناقوس الرحيل للانطلاق فوراً. إن طول الأمل المعشش عندي وعندك الناجم من حب النفس ومكائد الشيطان الملعون ومغرياته، تمنعنا من الاهتمام بعالم الآخرة ومن القيام بما يجب علينا. وإذا كانت هناك مخاطر وعوائق في الطريق، فلا نسعى لإزالتها بالتوبة والإنابة والرجوع إلى طريق اللَّه، ولا نعمل على تهيئة زاد وراحلة، حتى إذا ما أزف الوعد الموعود اضطررنا إلى الرحيل دون زاد ولا راحلة. ومن دون العمل الصالح، والعلم النافع، اللذين تدور عليهما مؤونة ذلك العالم، ولم نهيئ لأنفسنا شيئاً منهما. وحتى لو كنا قد عملنا عملاً صالحاً، فإنه لم يكن خالصاً بل مشوباً بالغش، ومع آلاف من موانع القبول. وإذا كنا قد نلنا بعض العلم، فقد كان علماً بلا نتيجة، وهذا العلم إما أنْ يكون لغواً وباطلاً، وإما أنه من الموانع الكبيرة في طريق الآخرة. ولو كان ذلك العلم والعمل صالحين، لكان لهما تأثير حتمي وواضح فينا نحن الذين صرفنا عليهما سنوات طوالاً، ولغيّرا من أخلاقنا وحالاتنا. فما الذي حصل حتى كان لعملنا وعلمنا مدة أربعين أو خمسين سنة تأثير معكوس، بحيث أصبحت قلوبنا أصلب من الصخر القاسي؟ ما الذي جنيناه من الصلاة التي هي معراج المؤمنين؟ أين ذلك الخوف وتلك الخشية الملازمة للعلم؟ لو أننا أُجبرنا على الرحيل ونحن على هذه الحال لا سمح اللَّه لكان علينا أن نتحمل الكثير من الحسرات والخسائر العظيمة في الطريق، مما لا يمكن إزالته!
* خطر طول الأمل
إذاً، فنسيان الآخرة من الأمور التي يخافها علينا وليّ اللَّه الأعظم، الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، ويخاف علينا من الباعث لهذا النسيان وهو طول الأمل، لأنه يعرف مدى خطورة هذه الرحلة، ويعلم ماذا يجري على الإنسان الذي يجب أن لا يهدأ لحظة واحدة عن التهيؤ وإعداد الزاد والراحلة، عندما ينسى العالم الآخر، ويستهويه النوم والغفلة من دون أن يعلم أن هناك عالماً آخر، وأن عليه أن يسير إليه حثيثاً. وماذا سيحصل له؟ وما هي المشاكل التي يواجهها؟
يحسن بنا أن نفكر قليلاً في سيرة أمير المؤمنين والنبي الكريم صلى الله عليه وآله، وهما أشرف خلق اللَّه ومن المعصومين عن الخطأ والنسيان والزلل والطغيان، لكي نقارن بين حالنا وحالهما. إن معرفتهما بطول السفر ومخاطره قد سلبت الراحة منهما، وإن جهلنا أوجد النسيان والغفلة فينا. إن نبينا صلى الله عليه وآله قد روّض نفسه كثيراً على عبادة اللَّه، وقام على قدميه في طاعة اللَّه حتى ورمت رجلاه، فنزلت الآية الكريمة تقول له: ﴿طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى﴾ (طه: 1 2). وعبادات علي عليه السلام وتهجّده وخوفه من الحق المتعال معروفة للجميع. إذاً، إعلم أن الرحلة كثيرة المخاطر، وإنما هذا النسيان الموجود فينا ليس إلاّ من مكائد النفس والشيطان، وما هذه الآمال الطوال إلاّ من أحابيل إبليس ومكائده. فتيقظ أيها النائم من هذا السبات وتنبّه، واعلم أنك مسافر ولك مقصد، وهو عالم آخر، وأنك راحل عن هذه الدنيا، شئت أم أبيت. فإذا تهيأت للرحيل بالزاد والراحلة لم يصبك شيء من عناء السفر، ولا تصاب بالتعاسة في طريقه، وإلاّ أصبحت فقيراً مسكيناً سائراً نحو شقاء لا سعادة فيه، وذلّة لا عزّة فيها وفقر لا غناء معه وعذاب لا راحة منه. إنها النار التي لا تنطفئ، والضغط الذي لا يخفف، والحزن الذي لا يتبعه سرور، والندامة التي لا تنتهي أبداً. أنظر أيها الأخ إلى ما يقوله الإمام في دعاء كميل وهو يناجي الحق عزَّ وجلَّ: "وَأَنْتَ تَعْلَمُ ضَعْفِي عَنْ قَلِيلٍ مِنْ بَلاَءِ الدُّنْيَا وَعُقُوبَاتِهَا" إلى أن يقول: "وَهذَا مَا لاَ تَقُومُ لَهُ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ". ترى ما هذا العذاب الذي لا تطيقه السماوات والأرض، الذي قد أعدّ لك؟ أفلا تستيقظ وتنتبه، بل تزداد كل يوم استغراقاً في النوم والغفلة؟ فيا أيها القلب الغافل! إنهض من نومك وأعدّ عدتك للسفر، "فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحِيلِ"(1)، وعمّال عزرائيل منهمكون في العمل ويمكن في كل لحظة أن يسوقوك سوقاً إلى العالم الآخر، ولا تزال غارقاً في الجهل والغفلة؟ "اللَّهُمَّ إِنّي أَسْأَلُكَ التَّجَافِيَ عَنْ دَارِ الغُرُورِ، وَالإِنَابَةَ إِلَى دارِ السُّرُورِ والاسْتِعْدَادَ لِلْمَوْتِ قَبْلَ حُلُولِ الْفَوْتِ"(2).
(1) نهج البلاغة، الخطبة 204، (الشيخ صبحي الصالح).
(2) مفاتيح الجنان، دعاء ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان