الشيخ علي سليم
يمثّل الإمام علي بن الحسين عليه السلام في دوره الريادي نهاية المرحلة الأولى من مراحل حياة الأئمة الطاهرين عليهم السلام، التي عاشوا فيها لمجابهة صدمة الانحراف التي وقعت في الأمة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله، والعمل على الاحتفاظ بالإسلام كشريعة مستمرة دون أن يطالها التحريف، وبداية المرحلة الثانية التي اتجهت فيها جهود الأئمة عليهم السلام إلى إبراز وتحديد الإطار التفصيلي الخاص لخط التشيع، بوصفه الوجه الحقيقي المشرق للإسلام "المحمدي الأصيل"(1). وقد اتسمت فترة إمامته عليه السلام التي امتدت حوالي خمسة وثلاثين عاماً بالبعد عن المواجهة المباشرة لطواغيت زمانه، مما كوَّن تصوراً خاطئاً عند بعض المؤرخين "بأن أئمة الشيعة الإمامية من أبناء الحسين عليه السلام قد اعتزلوا بعد واقعة كربلاء السياسة، وانصرفوا إلى الإرشاد والعبادة والانقطاع عن الدنيا.
ولعل سبب هذا التصور الخاطئ هو ما بدا لهم من عدم إقدامهم على عمل مسلح ضد الوضع الحاكم، مع إعطاء الجانب السياسي من القيادة معنى ضيقاً لا ينطبق إلا على العمل المسلح. والإمام السجاد عليه السلام كان يؤمن بأن تسلم السلطة وحده لا يكفي لتحقيق عملية التغيير إسلامياً، ما لم تكن السلطة مدعمة بقواعد شعبية واعية، تعي أهداف تلك السلطة وتؤمن بنظريتها في الحكم، وتعمل في سبيل حمايتها، وتفسير مواقفها للجماهير، وتصمد في وجه الأعاصير"(2). إلا أن هذا لا يمنع من قيام الإمام عليه السلام بدور قيادي سياسي غير مباشر، وآخر فكري وروحي واجتماعي مباشر. الدور السياسي غير المباشر: ويتمثل بنحوين:
1 - تحريك الضمير الثوري عند المسلمين والتركيز على استفزاز شعورهم بالإثم وضرورة التكفير عنه، وذلك للحفاظ على الضمير الإسلامي والإرادة الإسلامية من الانهيار والتنازل المطلق عن شخصيتها وكرامتها للحكام المنحرفين. وقد ألهب الإمام عليه السلام هذا الشعور بالإثم من خلال خطبه التي ألقاها في الكوفة والشام والمدينة، فمما قاله في أهل الكوفة: "أيها الناس، مَنْ عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا ترات، أنا ابن من انتُهك حريمه وسُلب نعيمه وانتُهب ماله وسُبي عياله، أنا ابن من قُتل صبراً فكفى بذلك فخراً. أيها الناس، ناشدتكم بالله: هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه وخذلتموه؟ فتباً لكم لما قدمتم لأنفسكم وسوءة لرأيكم. بأي عين تنظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، إذ يقول لكم: قتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي فلستم من أمتي؟ فارتفعت أصوات الناس بالبكاء.."(3).
وأما في الشام، فما أن بلغ الإمام من خطبته إلى موضع انتسابه إلى أبيه الحسين عليه السلام قائلاً: أنا ابن الحسين القتيل بكربلاء، أنا ابن المرمل بالدماء، أنا ابن من بكى عليه الجن في الظلماء، أنا ابن من ناح عليه الطير في الهواء حتى ضج الناس بالبكاء والنحيب وخشي يزيد الفتنة (أي أن يثور الناس عليه)، فأمر المؤذن أن يؤذن للصلاة، فقام المؤذن وقال: الله أكبر ألله أكبر، قال الإمام عليه السلام: نعم، ألله أكبر وأعلى وأجل وأكرم مما أخاف وأحذر. فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال عليه السلام: نعم، أشهد مع كل شاهد وأحتمل على كل جاحد أن لا إله غيره ولا رب سواه. فلما قال: أشهد أن محمداً رسول الله، أخذ عليه السلام عمامته عن رأسه وقال للمؤذن: أسألك بحق محمد أن تسكت، ثم أقبل على يزيد وقال: يا يزيد، هذا الرسول العزيز الكريم جدي أم جدك؟ فإن قلت إنه جدك، يعلم العالمون أنك كاذب، وإن قلت إنه جدي، فلمَ قتلت أبي ظلماً وعدواناً وانتهبت ماله وسبيت نساءه؟ فويل لك يوم القيامة إذا كان جدي خصمك(4)... وأما في المدينة، فأخذ خطاب الإمام شكل النعي لأبيه الحسين عليه السلام، ومما قاله:
أيها القوم، إن الله وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة وثلمة في الإسلام عظيمة: قُتل أبو عبد الله الحسين عليه السلام وعترته، وسُبي نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عالي السنان، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية. أيها الناس، فأي رجالات منكم يسرّون بعد قتله؟ أم أي فؤاد لا يحزن من أجله؟ أم أي عين منكم تحبس دمعها وتضن عن انهمالها؟(5)... إلى آخر خطبته عليه السلام. فالملاحظ أن الإمام عليه السلام بيّن في خطبه هذه فداحة الخطب وعظم المصاب وفظاعة الجريمة، التي ارتكبها يزيد بحق الإمام الحسين عليه السلام وبحق الإسلام والرسول صلى الله عليه وآله من جهة، ومن جهة أخرى أثار وجدان وضمير الناس، وحفزهم للثورة على هذا الحاكم الظالم والنظام الغاشم.
2 - دعمه وتأييده للثورات التي قامت ضد السلطة الأموية الطاغية، "فنراه يصدر بياناً عاماً ويثني ثناءً حاراً على كل مسلم يقوم بالثورة ضد الحكام المنحرفين. فحينما جاءه عمه محمد بن الحنفية مع رسول المختار الثقفي ليستشيره في طلب المختار الثورة، أجابه ببيان عام لم يكن يخص المختار فقط، بل إن بيانه يشمل كل مسلم يقف ثائراً بوجه ظلم بني أمية وحكمهم المنحرف"(6). أضف إلى ذلك أن الإمام السجاد عليه السلام ترحم على المختار لاقتصاصه من قتلة الإمام الحسين عليه السلام، لا سيما عبيد الله بن زياد الذي بعث المختار برأسه إلى الإمام عليه السلام، كما نقرأ في الزيارة الموجودة على قبر المختار في الكوفة. "فتخلّي الإمام عليه السلام عن العمل الثوري المباشر واكتفاؤه بالتأييد والإسناد والثناء على القائمين به، لا يعني تخليه عن الجانب السياسي من القيادة وانصرافه إلى العبادة، وإنما كان يعبر عن اختلاف صيغة العمل السياسي التي تحددها الظروف الموضوعية التي عاشها الإمام زين العابدين عليه السلام"(7). وتجدر الإشارة هنا إلى أن سلسلة من الثورات العلوية على السلطة الأموية قادها وتزعمها الشهيد زيد بن علي بن الحسين عليه السلام وذريته من بعده، وكان لها أثرها البالغ في تقويض حكم بني أمية وزوال ملكهم وسلطانهم.
* الدور الفكري والروحي والاجتماعي:
يعتبر الإمام علي بن الحسين عليه السلام المؤسس الثاني للمدرسة الإسلامية، إذ إن جده أمير المؤمنين علياً عليه السلام هو المؤسس الأول لها. فكان يتخذ عليه السلام من المسجد النبوي ومن بيته مدرسة يلتف حوله فيها طلاب العلم الوافدون من كل مكان ويزدحمون عليه، لينهلوا من معين علمه ويستضيئوا بنور فكره وحكمته ويقتدوا به في مكارم أخلاقه. وأصبح تلامذته فيما بعد بناة الحضارة الإسلامية ورجال فكرها وتشريعها وأدبها الإسلامي(8). وقد ذكر الشيخ المفيد أنه قد روى عنه الفقهاء من العلوم ما لا يحصى كثرة، وحُفظ عنه من المواعظ والأدعية وفضائل القرآن والحلال والحرام والمغازي والأيام ما هو مشهور بين العلماء. وقد جابَهَ الإمام عليه السلام المشاكل والعقبات الفكرية التي كانت تهدد كرامة الدولة الإسلامية، وتعجز الزعامات المنحرفة عن حلها، بصفته الممثل الحقيقي للإسلام، "كما في المشكلة التي أحدثها كتاب ملك الروم إلى عبد الملك بن مروان، إذ عجز الأخير عن الجواب، فملأ علي بن الحسين عليه السلام هذا الفراغ وأجاب بالشكل الذي يحفظ للأمة الإسلامية هيبتها"(9). ومن آثاره المدونة والتي تعتبر من أوائل التصانيف في صدر الإسلام:
1 - الصحيفة السجادية الكاملة: اعتمد الإمام أسلوب الدعاء كطريقة جديدة يواجه بها تلك الظروف القاسية التي عاشها، موجهاً من خلالها أبلغ الرسائل في بناء الأمة وتوجيهها نحو الله والآخرة وحضها على إقامة العدل ومواجهة الظلم.
2 - رسالة الحقوق: وهي من الأعمال الفكرية السامية في الإسلام، تحتوي على توجيهات وتعليمات وقواعد في السلوك العام والخاص من أدق وأروع ما عرفه الفكر الإنساني.
(1) الأئمة الإثنا عشر عليهم السلام، عادل الأديب ص54 153.
(2) دور الأئمة، محمد باقر الصدر.
(3) م.ن، ص360.
(4) م.ن، ص411.
(5) م.ن، ص427.
(6) الأئمة الإثنا عشر عليهم السلام، ص145.
(7) بحث في الولاية، محمد باقر الصدر.
(8) المجالس السنية، السيد الأمين، ج2، ص280.
(9) دور الأئمة، الصدر.