المقاومة الإسلامية عند النخب والمفكرين العرب
موسى حسين صفوان
سنوات عجاف مرّت. منذ مطلع القرن الماضي، والأمّة الإسلامية والعربية تعالج مخاضاً عسيراً دون أن تتمكن من إخراج مشروعها السيادي إلى دنيا الوجود، فضلاً عن تراكم التداعيات الثقافية والاجتماعية والحضارية التي جاءت كنتيجة حتمية لسلسلة الإخفاقات العربية، منذ فشل مشروع الوحدة العربية على أثر سقوط الدولة العثمانية، وحتى يومنا هذا، مروراً بسايكس بيكو، ووعد بلفور، وقيام الكيان الصهيوني الغاصب في فلسطين، وحرب ال48، وحرب ال67، وغزو لبنان عام 1978 وعام 1982، وما رافق ذلك من محاولات نهوض عربية وإسلامية تقابلها في الجانب الآخر محاولات تثبيط واستسلام... ويمكن أن نلاحظ، خاصة منذ عام 1968م حيث انطلقت المقاومة الفلسطينية على أثر ما سمي بنكسة الخامس من حزيران، أن ثقافة النخب الفكرية، والتي أسقطت مفرداتها اللغوية على الشارع العربي والإسلامي، حشدت في قاموسها النضالي، إلى جانب البندقية، والسلاح والمواجهة، سيلاً من مفردات الشكوى تارة من الواقع العربي الغافل عن مصيره السياسي والمستسلم للإرادة الغربية الماكرة التي ثبّتت دولة الكيان الغاصب في أرض فلسطين، وطوراً من صميم المعاناة.
- لغة الانتصار
وبعد انتصار المقاومة الإسلامية عام 2000م تبدلت مفردات الثقافة في الأدب والشعر والتعاطي السياسي، فالزنازين حطمت أسوارها وجدرانها، والسجانون هربوا أو وقعوا تحت قبضة القضاء، والقيود حطمت. ومن ناحية أخرى أزهرت الدماء، وروّت الدموع الأرض الخصبة فأينع الزرع وحان القطاف، وتبدلت لغة المعاناة والشكوى وحلّت محلها لغة النصر، والعزّ، والرايات المرفوعة والمركوزة، في ركام الحاميات المدمّرة، وتبدلت دموع أم الشهيد بزغاريد النصر وشكوى والد الشهيد بالإصرار على الجهاد والمواجهة والإعتزاز بالشهادة والتحدي. ورغم انتشار عبق الشهادة والنصر ونسائم العزّة والكرامة في الشرائح المجتمعية العربية كافة، وخاصة لدى النخب المثقفة، إلا أن فريقاً ممن تعودوا تثبيط العزائم شكّكوا بالنصر عام 2000 بذريعة أن العدو لم ينهزم ولكنه أراد أن يخفض خسائره فترك الساحة التي لا مصلحة له في البقاء فيها... وجاءت حرب تموز 2006 الوحشية والمدمرة لتنتهي بنصر جديد حققته المقاومة الإسلامية. ورغم أن الساحة اللبنانية، وبسبب المعادلات السياسية الداخلية، توزعت بين منتصر للمقاومة وبالمقاومة ومعتز بانجازها التاريخي، وبين مشكك بالنصر، فلا يزال العدو الغاشم وحتى بعد شهرين من انتهاء الحرب يعاني من تداعيات الحرب النفسية والمعنوية والعسكرية، ويظهر في كل يوم عبر وسائل اعلامه فضائح جديد لهزيمة جيشه وانهياره أمام فوارس المقاومة الإسلامية البطلة... ولكن الأكثر جدارة بالقراءة موقع المقاومة الإسلامية عند النخب والمفكرين العرب، الذين وجدوا بانتصار المقاومة مادة دسمة سوف تغذي قرائحهم، وتستدعي أقلامهم وريشهم لعقود قادمة، وحتى يقيض اللَّه لهذه الأمة انجازاً آخر. ومن أهم الآثار التي عبر عنها المثقفون العرب أثناء الحرب وما زالوا يعبرون عنها بين الحين والآخر، باقة مختارة من المواقف والمساهمات الفكرية، تنوعت بين رسائل التأييد، والاعتصامات والمسيرات والقصائد الشعرية والمقطوعات الأدبية، إضافة للبحوث والدراسات والتحاليل السياسية... وإذا كانت هذه الظاهرة التي واكبت نشاطات المقاومة الإسلامية والوطنية في لبنان وفلسطين والعراق وغيرها من البلدان الإسلامية تحتاج إلى قراءة متأنية ودراسة موسعة للإحاطة بها، ودراستها، ورفدها وتثميرها، فإننا نكتفي في هذا المقال بالإشارة إلى نماذج محدودة تعبر عن نبض الشارع العربي والإسلامي.
- تحطيم الحواجز المذهبية:
هذه الظاهرة الإيجابية لعلها من أهم انجازات هذه الجولة المباركة من المواجهة بين طليعة الأمة الإسلامية والعدو الإسرائيلي، فقد أعرب العديد من العلماء المسلمين المتنورين عن تأييدهم ودعمهم للمقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين متجاوزين الحواجز المذهبية. وكانت أبرز المواقف في هذا المجال للمرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين محمد مهدي عاكف، الذي عبر عن رأيه بشكل متميز فاعتبر الأمين العام لحزب اللَّه السيد حسن نصر اللَّه إنساناً مباركاً وعالماً فاضلاً ثابتاً على الحق. وقدم عاكف ما يمكن وصفه بأنه أكبر دعم سياسي للمقاومة وقائدها فقال: "إن نصر اللَّه قائد لمقاومة إسلامية هي بكل المقاييس العسكرية والسياسية حتى اليوم منتصرة". وكان المرشد العام للإخوان المسلمين قد قاد آلاف المتظاهرين أثناء الحرب المفتوحة في الجامع الأزهر للتنديد بالعدوان. وقد تكررت المظاهرات والمسيرات المؤيدة للمقاومة في القاهرة. وارتفعت صور الأمين العام وأعلام المقاومة في باحة الجامع الأزهر وترددت شعارات تعبوية منها "همة همة همة، نصر اللَّه زعيم الأمّة". وطالب عضو جماعة الإخوان المسلمين محمد حبيب بوقف تصدير النفط والغاز الطبيعي إلى الدول الغربية. وانتقد حزب جبهة العمل الإسلامي في عمان الموقف الحكومي الرسمي المرتبك، وكان قد نظم العديد من المسيرات والاعتصامات شجباً للعدوان وتأييداً للمقاومة. واتهم الزعيم الإسلامي السوداني حسن الترابي الأنظمة العربية بموالاة الغرب وأميركا في الصراع مع إسرائيل الذي تصدت له المقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين. ودعا الشعوب العربية والإسلامية إلى الثورة على الحكام واستبدالهم وقال: "إن المواجهة الحالية (في لبنان وفلسطين) ألغت الطائفية الدينية وتجاوزت الشعوب المسلمة محطمة التعصب (المذهبي) بالتفافها وتأييدها ل(الأمين العام لحزب اللَّه السيد حسن نصر اللَّه)" وفي السعودية دعا العالم السعودي محسن العواجي إلى مناصرة حزب اللَّه في حربه ضد القوات الإسرائيلية بكل وسيلة مشروعة، وقال: من السذاجة النظر إلى حزب اللَّه في هذه الأزمة نظرة طائفية مجردّة ولا سيما أنه تحت قيادة حسن نصر اللَّه، الداهية سياسياً والشجاع ميدانياً. كل هذه المواقف، إضافة إلى مواقف علماء المسلمين في النجف الأشرف وقم وغيرها من البلدان من أقصى العالم الإسلامي إلى أقصاه، تبشر بمرحلة جديدة يتجاوز فيها الصراع مع العدو الغاصب الحواجز المذهبية والاقليمية والعرقية كافة. ويتمحور حول قضية واحدة وتحت شعار واحد وهو شعار التوحيد.
- موقف المثقفين:
إلى ذلك، لعب المثقفون العرب في أرجاء العالم العربي كافة دوراً مهماً أثناء الحرب المفتوحة. فمن الشعراء الذين ترددت أصداء أشعارهم عبر موجات الأثير، إلى الفنانيين الذين عبروا بما لهم من رصيد معنوي لدى جماهير الشعوب العربية عن مواقفهم من المقاومة وشجبهم لجرائم العدو، إلى المثقفين والأطباء والمهندسين والمهنيين وغيرهم الذين شاركوا في المسيرات والاعتصامات، وأرسلوا رسائل الدعم والتأييد. ومن تلك النشاطات، ما قام به نادي المهن التمثيلية في القاهرة، والذي ضم العديد من الفنانين المصريين وفي مقدمتهم النجم الكوميدي عادل إمام، الذين دعوا بأسلوبهم إلى نصرة لبنان وطرد السفير الإسرائيلي من القاهرة وإدانة الصمت الرسمي العربي، وقال إمام: "عار على الإنسانية والشعوب وهي تنظر إلى مقتل الأطفال والنساء والشيوخ وسط الشوارع..." أما الصحافيون والقضاة والمحامون والمهندسون والكتّاب والفنانون والأساتذة الجامعيون والطلاب الذين تداعوا إلى مقر نقابة الصحافيين في القاهرة فقد أرسلوا رسالة إلى السيد حسن نصر اللَّه، عبروا فيها عن حبهم وتأييدهم؛ قالوا فيها: إن مواجهات اليوم على قسوتها... مواجهة رشيدة حكيمة... وأياً كانت النتائج التي ستسفر عنها المعارك، فقد أصبحتم مثلاً وذكّرتم الأمّة أنها من دون الاعتماد على حكوماتها قادرة على أن تنظم أفرادها وتقاتل عدوها وتنتصر. ووجهوا كلامهم إلى سماحة الأمين العام فقالوا: لكم يا سيدي في هذه المواجهة مع العدو الإسرائيلي أهل وأنصار...
جريدة السفير: 17-18-19-20-22-25-26-27/تموز/2006.