نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

جعبة مقاوم‏: صدقة الليل‏

هادي قبيسي‏

 



وسط جلبة استعدادنا للانطلاق في الدورية آخر النهار، كان صوت الشيخ محمد مسموعاً من الغرفة الأخرى خائضاً في جدال طويل مع أبي حسن. الشيخ المتحمس دوماً وأبداً كان يصر على المشاركة في ذلك المسير الطويل، وكان الجدال المعتاد بينهما يسبق كل مشاركة له في هذا المحور. رغم سنه التي قاربت الأربعين فإن بنيته القوية كانت تعينه على تحمل مشقات السير المتمادي عبر الجبال وخوض القتال. ولذلك فإن نتيجة الجدال لم تتبدل يوماً.

مضينا، بعد أداء الصلاة خلف الشيخ، ننحدر نحو الوادي، وكان صوت زيازي الليل يرتفع مع هبوط العتمة، ورائحة القصعين السائغة تتسرب عبر النسائم المسائية الباردة وسط فوح عطر الطيون البري. كنا لا نزال نبصر بقايا الشفق الغربي فيما تناهت إلى مسامعنا، عبر القعر، تموجات وشوشة النهر. سار الشيخ أمامي عند المنحدر، وكان يكسر بضربة من قدمه شجيرات القندول اليابسة ذات الأشواك الطويلة القاسية كلما اعترضت الطريق، كان لا بد من ترك آثار على مرور دورية شارك فيها الشيخ.

وصلنا القعر بعد ساعة من السير على الطريق المتعرج الضيق الممتد في بطن الجبل، وغدت النسائم أكثر برودة من أثر جريان النهر. كان لا بد من التوقف لدقائق، فرحت نحو المجرى وصببتُ بعض الماء على وجهي، ثم عدت وقد سكت اللهاث عني، وأسندت حقيبة الظهر إلى شجرة صفصاف ملقياً رأسي إليها. ومن خلال الأغصان، كان بإمكانك أن ترى نور القمر الذي كان قد بدأ يشق ظلام السماء رويداً رويداً. قال الشيخ مازحاً، وبصوته الجهوري المعتاد:

تفضلوا إلى اللويزة يا شباب.. ستفضحنا .. أخفض صوتك.. لا زلنا خارج المنطقة المحتلة.. ماذا يخيفك في هذا الوادي؟ هيا لنمش، وليبق المتعبون هنا. ضحك الجميع، وتابعنا المسير بمحاذاة النهر الصاخب، حيث غدت الأرض أكثر ليونة وسط السواقي التي تفرعت عن المجرى. كان الطريق مظلماً تحت ظلال الأشجار، وقد تشابكت بعض أغصان العليق القاسية بين جذوع الأشجار، فكانت تعلق أقدامنا بها، وتحت الظلام كان من العبث تخطيها دون أن تنغرز بعض أشواكها بأقدامنا. وصلنا، بعد ساعتين من المسير المتواصل، إلى المكان الذي نجتاز النهر عنده عادةً. قال الشيخ: سأتقدم أنا ونمسك بأيدي بعضنا البعض.. أنتم سيحملكم التيار.. تقدمت ممسكاً بيد الشيخ الضخمة وباليد الأخرى رافعاً البندقية. كانت المياه باردة جداً، وكان ثمة صخور كبيرة زلقة في القاع، وكان النهر يزداد عمقاً كلما تقدمنا حتى وصلت المياه إلى صدري، فأحسست ببرودتها تخترق الضلوع، غير أن المجرى لم يكن عريضاً، وعبرنا وتابعنا المسير حتى وصلنا مُنْفَرَجاً بين التلال تملأه أشجار مثمرة. وتحت ضوء السماء التي توسطها البدر محدثاً دائرة من الشعاع الشفيف، رحنا، والنسائم الباردة تداعب ثيابنا المبللة، نتناول اللوز والتفاح. كان التعب والبرد قد أخذا منا كل مأخذ، فقررنا المكوث هناك حتى الساعة الثانية فجراً، ريثما نواصل المسير. أما الشيخ فقد ذهب في أمر اعتاده كلما أتى إلى تلك المنطقة.


كان ثمة منزل صغير يقع على بعد تلتين من هنا، تسكنه عجوز وحيدة، لم أدرِ كيف عرف بها الشيخ، وكلما شارك في هذه الدورية كان يحمل إليها بعض اللحم والطعام.. غير مكترث بتحذيرات أبي حسن الدائمة، فكان هذا الأخير يخوض معه الجدال المرير كيلا يصطحبه، لكن دون جدوى. قال لي أبو حسن: سأنام ساعة، فأيقظني عند الساعة الثانية فجراً. كيف ستنام وثيابك مبللة..؟ لا عليك.. أنام كلما سنحت الفرصة. رحت أتنقل بين أشجار اللوز، ألتهم حباتها عسى أن يدفئني الطعام، عبثاً. فقد كانت بقايا الشتاء لا تزال راكدة بين تلك الوديان. كان النعاس قد طار من عيني، وكانت شفتاي ترتجفان كلما هب النسيم البارد، فجلست قريباً من أبي حسن، وأخرجت السبحة من جيبي المبتل، ورحت أتلو بعض التسبيحات حتى هدأت. كانت تمتد أمامي سلسلة من التلال باتجاه الشرق، وكانت تبدو تحت ضوء القمر سوداء حائلة الزرقة، كأنها السراب. وإلى الأعلى، كانت تلوح من بعيد أنوار موقع سجد. وبين الفينة والأخرى كنت تسمع أصداء إطلاق نار كثيف بين الوديان، أو على القمم.

مر الوقت بطيئاً بانتظار الشيخ، الذي عاد وأيقظ أبا حسن قائلاً: قم أيها المتعب.. تحتج بأن الشيب قد غزا رأسي كيلا آتي.. قم لنرى من أكثرنا شباباً.. عاودنا المشي، فشعرت ببعض الدف‏ء، ووصلنا، قبيل الفجر، منطقة المكمن، حيث سننتظر قدوم جنود العدو لعدة أيام. كانت عيناي تغمضان دونما إرادة، غفوت لحظة، فانهال الشيخ بكفه الضخمة على ظهري قائلاً: أجئت لتنام هنا؟.. وهل هنا مكان نوم؟ كنا قد قبعنا عند الأشجار المحيطة بساحة صغيرة جرداء، حيث كان الجنود، عند الفجر، يأتون كل فترة لينصبوا كميناً. وكان قدومهم متوقعاً ذلك الأسبوع. وضعت حقيبة الظهر المليئة بمعلبات الطعام على الأرض وفتحت عتلة الأمان، محاولاً الإبقاء على عيني مفتوحتين، منتظراً قدوم الصباح، حيث يصبح بالإمكان تبادل نوبات النوم، ويمكن للشمس أن تجفف ملابسنا. في فجر اليوم التالي، كنا على موعد مع مواجهة عنيفة، وكانت جلبة دورية العدو المؤلفة عادة من خمسة عشرة عنصراً، بادية بوضوح مع أولى نسائم الفجر. أطل أولهم من خلل الضباب الضئيل، ثم تبعه ثلاثة جنود، وتقدموا حتى وصلوا وسط الساحة وتوقفوا هناك يتلفتون يمنة ويسرة. في تلك اللحظة رمى أبو حسن قنبلة انفجرت بينهم مضئية ظلام الوادي، أتبعناها بكل ما في بنادقنا من الرصاص، تحت صرخات الشيخ المدوية: الله أكبر.. يا أبا عبد الله.. جندلناهم، ولم يزل صوت صراخ أحدهم يدوي في أذني، ثم تقدم بعضهم مطلقين النار في كل اتجاه ولم يستطيعوا دخول الساحة تحت وابل نيراننا، فبدأوا يطلقون النار من خلف الأشجار، فأخذت ثلاث قنابل كانت في جعبتي ورميتها نحوهم، فيما تقدم الشيخ من بين الأشجار نحوهم مطلقاً النار. وهو يهتف: ي...ا حس.....ين.. يا أبا عبد الله.. ومنذ ذلك الصباح فقدت العجوزُ المعيلَ المجهولَ، الذي كان يأتي وسط الليل حاملاً سلاحه بيد، وطعاماً بالأخرى.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع