السيد علي مرتضى
سلام هي. ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر. ليلةٌ، العمل فيها يزيد على العمل في ثلاث وثمانين سنة ونيّف ليس فيها مثل هذه الليلة. هي ليلةٌ واحدةٌ في السنة، أَجَلَّها الرحمن، وحفّت بها الملائكة، وعاينها الأنبياء والأولياء، وشخص لها المحبّون.. حريّ بالإنسان أن يفكّر كيف يغتنم هذه الليلة. ومن الجدير أن يتحرّاها، ويرصدها، ويستعدّ لها.. بل ليس من الغريب أن يحيي بعضهم سنةً بأكملها ليدرك هذه الليلة على نحو لا يشوبه شكّ، لما لهذه الليلة من الفضل والخير والسلام.
أهميّة الليلة:
ولعلّ من أهمّ البواعث على إحياء هذه الليلة واغتنام لحظاتها النورانيّة هو المعرفة بفضلها، وكرامتها، وصفاتها وما يجري فيها، والنظر بسيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وآله الأطهار عليهم السلام كيف كانوا يتأهّبون وكيف كانوا يمضون آناءها، والتأمّل بسيرة السلف الصالح كيف كانوا يستغلّون لحظات هذه الليلة المباركة. وقد يمضي بعضٌ هذه الليلة كغيرها من الليالي، ويراها آخرون ليلة تعبٍ ونصب، بينما تراها ثلّة ثالثةٌ ليلة اللقاء والأنس بالله سبحانه، ليلة الخلوة مع الحبيب، الذي هيّأ كلّ الأسباب للإنسان للقائه في هذه الليلة، ليلة الفرحة والبهجة والسرور، ليلة الدمعة من فرحة الفوز والرضوان. ولا ريب أنّ كلّ ما قيل في حقّ شهر رمضان المبارك، وكلّ ما يذكر له من فضل وثواب، وما يعطى فيه من منح وهبات، وتصفيد الشياطين وتفتُّح أبواب الجنان و...(1) كلّ ذلك يسري إلى ليلة القدر؛ لأنّها منه، وفيه. بل يُذكر أنّ شهر رجب وشهر شعبان موطّئان لشهر رمضان، وشهر رمضان بذاته موطّئ لليلة القدر، فهي إذاً تزيد عليه.
* مواقف من أهل البيت عليهم السلام في هذه الليلة:
1- ورد عن أبي عبد الله عليه السلام، أنّه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله، إذا دخل العشر الأواخر، ضربت له قبّة شعر، وشدّ المئزر(2). وروي أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله، كان يرشّ على أهله الماء، ليلة ثلاث وعشرين، يعني من شهر رمضان(3).
2- وعن أمير المؤمنين عليه السلام: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان يطوي فراشه، ويشدّ مئزره، في العشر الأواخر من شهر رمضان، وكان يوقظ أهله ليلة ثلاث وعشرين، وكان يرشّ وجوه النيام بالماء، في تلك الليلة. وكانت فاطمة عليها السلام، لا تدع أحداً من أهلها ينام تلك الليلة، وتداويهم بقلّة الطعام، وتتأهّب لها من النهار، وتقول: محروم من حرم خيرها(4).
3- وينقل ابن طاووس أنّه: "يوجد في الأخبار أنّ مولانا زين العابدين صلوات الله عليه كان يتصدّق كلّ يوم من شهر الصيام بدرهم، رجاء أن يظفر بالصدقة في ليلة القدر. كما رويناه ورأيناه في كتاب عليّ بن إسماعيل الميثميّ في كتاب أصله عن عليّ بن الحسين عليهما السلام: كان إذا دخل شهر رمضان تصدّق في كلّ يوم بدرهم، فيقول: لعلّي أصيب ليلة القدر. أقول: إعلم أن مولانا زين العابدين عليه السلام كان أعرف أهل زمانه بليلة القدر، وهو صاحب الأمر في ذلك العصر والمخصوص بالاطلاع على ذلك السرّ. ولعلّ المراد بصدقته كلّ يوم من الشهر ليقتدي به من لم يعلم ليلة القدر في فعل الصدقات والقربات كلّ يوم من شهر رمضان، ليظفر بليلة القدر ويصادفها بالصدقة وفعل الإحسان. أقول: ولعلّ مراد مولانا علي بن الحسين عليهما السلام إظهار أن يتصدّق كلّ يوم بدرهم، ليستر عن الأعداء نفسه، بأنّه ما يعرف ليلة القدر، لئلا يطلبوا منه تعريفهم بها"(5).
4- وأمّا الإمام الصادق عليه السلام: فعن حمّاد بن عيسى، عن حمّاد بن عثمان قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان، فقال لي: يا حمّاد اغتسلت؟ قلت: نعم جعلت فداك، فدعا بحصير، ثمّ قال: إلى لزقي فصلّ، فلم يزل يصلّي وأنا أصلّي إلى لزقه حتّى فرغنا من جميع صلاتنا، ثمّ أخذ يدعو وأنا أؤمن على دعائه إلى أن اعترض الفجر، فأذّن وأقام ودعا بعض غلمانه فقمنا خلفه....(6). وأمّا الباقر عليه السلام: فعن الفضيل بن يسار: كان أبو جعفر عليه السلام إذا كانت ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين، أخذ في الدعاء حتى يزول الليل، فإذا زال الليل، صلّى(7).
* ليلة اللقاء:
وليس الأمر جزافاً أن تكون المشيئة الإلهيّة لاختيار جرح الأمير عليه السلام في إحدى هذه الليالي، وهي ليلة تسعة عشرة، واستشهاده عليه السلام في ليلة إحدى وعشرين، ليختم عليه السلام آخر كلماته بقوله "فزت وربّ الكعبة"، وتكون فرحة لقائه مع الله سبحانه وتعالى في أشرف الليالي وأعزّها. ولعلّ ليلة الجرح وليلة الاستشهاد، قد زادتا في الليلتين، بل في العشر الأواخر من شهر رمضان مهابةً وجلالاً، ليكون الدين الخاتم الذي نزل بآخر الكتب وهو القرآن، في شهر الصيام، وقد هيّئت كلّ الأسباب المعنويّة والنورانيّة، من شهر رجب وشهر شعبان، وكلّ ما سبق من ليال وأيّام قبل ليلة القدر، كلّ ذلك تمهيداً وتوطئة لهذه الليلة المباركة، فتعدّ وتبسط كلّ هذه المأدبة الإلهيّة، وتفوح عبقات النسائم الرحمانيّة، لتنتشر في بيت الإمامة، وتدور في الفلك الذي اجتمع فيه الحسنان وزينب حول أبيهما عليهم جميعاً سلام الله يودّعونه، تعبيراً عن مدى ربط هذا الدين بهذه الليلة، وعن مدى علاقة هذه الليلة بالإمام، ولعلّ الموقف يغني للناظر عن الدليل.
* ختام واغتنام:
بعد هذا الاقتباس المختصر من روايات أهل البيت عليهم السلام، وبعد هذا العرض اليسير، جديرٌ أن ننظر كيف نغتنم هذه اللحظات من العمر، كيف نتهيّأ، وكيف نستعدّ، فلعلنا لا ندرك السنة القادمة، ومَن يدري؟! جدير بنا أن نعمل على كسب رضا الله ورضا صاحب هذه الليلة. يقول الشيخ عباس القمّي: "وفي هذا الشهر ليلة تكون عبادة الله فيها خيراً من عبادته ألف شهر، فانتبه فيه لنفسك، وتبصّر كيف تقضي فيه ليلك ونهارك، وكيف تصون جوارحك وأعضاءك عن معاصي ربّك، وإيّاك وأن تكون في ليلتك من النائمين، وفي نهارك من الغافلين عن ذكر ربّك..."(8). "اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد، ووفّقني فيه لليلة القدر على أفضل حال تحبّ أن يكون عليها أحد من أوليائك وأرضاها لك، ثمّ اجعلها لي خيراً من ألف شهر، وارزقني فيها أفضل ما رزقت أحداً ممّن بلّغته إيّاها وأكرمته بها، واجعلني فيها من عتقائك من جهنّم، وطلقائك من النار، وسعداء خلقك، بمغفرتك ورضوانك يا أرحم الراحمين"(9).
(1) راجع في ذلك خطبة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله في استقبال شهر رمضان، ولم نتعرض لمضامينها لشهرتها ولتكررها على الألسن، ولأجل الاطلالة على غيرها من الروايات، بما يتناسب مع مضمونها أيضاً.
(2) الميرزا النوري، 1320هـ، مستدرك الوسائل، الطبعة: الأولى المحقّقة، سنة 1408هـ، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث، بيروت، لبنان، الحديث 22، ج7، ص463.
(3) م.ن، الحديث 24، ج7، ص473.
(4) م.ن، الحديث 15، ج7، ص470.
(5) ابن طاووس، 664هـ، اقبال الأعمال، تحقيق: جواد القيومي الأصفهاني الطبعة الأولى سنة 1414هـ، مكتب الاعلام الإسلامي، ص105.
(6) المجلسي 1111هـ، بحار الأنوار، تحقيق/ إبراهيم الميانجي، محمد الباقر البهبودي، منشورات مؤسسة الوفاء، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية 1983م، ج95، ص157.
(7) الكليني، 329هـ، الكافي، تصحيح وتعليق، علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، طهران، إيران، ط. الثالثة 1363هـ.ش، ج4، باب ما يزاد من الصلاة في شهر رمضان الحديث 5.
(8) مفاتيح الجنان، ذيل خطبة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله في استقبال شهر رمضان.
(9) الطوسي، 460هـ، مصباح المتهجد، الطبعة: الأولى، سنة 1411هـ، مؤسسة فقه الشيعة، بيروت، لبنان، دعاء أول يوم من شهر رمضان ص604.