نسرين إدريس
اسم الأم: فريدة الموسوي
محل وتاريخ الولادة: النبي شيت 15 7 1980
الوضع العائلي: عازب
محل وتاريخ الاستشهاد: بنت جبيل 29 7 2006
يمسحُ الوالد دمعةً ساخنة من على حافة عينه، وهو يستذكر ذلك اليوم، عندما كان وابنه محمد عائدين من شراء بعض مستلزمات البناء للمنزل الذي يشيده محمد، وبالقرب من مقام الشهيد السيد عباس الموسوي رضي الله عنه وروضة الشهداء، ابتسم لوالده قائلاً: "هل تعلم يا أبي، لن يكون لي منزل إلا هنا بالقرب من الشهداء". خالط شعور غامض مشاعر الوالد، لأنه يعرف جيداً ولده، فهو الذي يعود باكياً من المحور بعد مشاركته في إحدى العمليات العسكرية، لأن الله لم يمنّ عليه بالشهادة، وهو الذي كان يبعثُ شكواه لرفاقه الذين سبقوه خفيةً وجهاراً، فكيف له أن يحملَ الأحجار ليبني منزلاً، وأمنيته كانت وظلّت أن يبني الله له بيتاً في الجنّة؟! السيد عمّاد، ومن لا يعرفُ ذلك المتواضع الخَجِل؟
الرجلَ المقدام في ساحِ النزال، والحنونَ الهادئَ بين الناس. كانتْ أمّه توضّب له ثيابه عندما يحين موعد ذهابه إلى المحاور، كما كان يساعدها ويخفف عنها في شؤون المنزل، وتبثُّ له ما أهمَّها، ويخبرها بمكنونات نفسه، فصداقة وطيدة جمعتْ بينهما، لذا، كانت تستشيره في كل شيء، لرجاحة عقله وحسن تدبيره. تمدّ الأم يديها إلى حاجيات ولدها. تفتحُ بعض الرسائل التي كتبها لها، عندما كان يشارك في الدورات العسكرية. ولطالما خففت كلماته لهيب الشوق في قلبها، ولكنه لم يغفل إلى جانب ذلك عن تذكيرها دوماً بحقيقة الطريق التي يسير فيها، وأنه بحاجة دوماً إلى الدعاء للتوفيق للبقاء في هذا النهج، والدعاء لنيل الشهادة.. لقد وعى "السيد عماد"، أهمية الحفاظ على الخيار، وعرف كالكثير من إخوانه المجاهدين بأن طريق المقاومة تحتاجُ إلى الدعاء والإخلاص للثبات، وهي ليست مسافة تطوى بعدد الأيام. وتعلّم منذ صغره الشجاعة من أبناء بلدته المقاومة، التي قدّمت خيرة أبنائها وعلى رأسهم سيد شهداء المقاومة ولا تزال على مذبح الشهادة. كان طفلاً يتحين الفرص للاقتراب من معسكرات تدريب المجاهدين.
ولَكَم تعلّق قلبه بهم، وهو يراهم وإلى جانبهم البنادقُ الساكتة، والأيدي تلطم الصدر، والعيون تفيض بالدموع حزناً على الإمام الحسين عليه السلام حيناً، ومناجاة لصاحب الزمان عجل الله فرجه حيناً آخر. لم يكن تردادُ "يا ليتنا كنا معكم" تقليداً أورثه الأجداد للآباء، بل عقيدة تربوا عليها، لأن طريق المقاومة هو الخطّ الحسيني. ولأن "السيد عماد"، هاشمي النسب، فإن لمعنى الجهاد في نفسه وقعاً خاصاً، وللدمعة محطات مختلفة. منذ طفولته، عرف كيف يعيشُ كل لحظةٍ من حياته بلونٍ مختلف. فهو الهادئ الذي سرعان ما يغادره الهدوء إذا ما سنحت الفرصة له للّعب، وهو بالقرب من والديه وإخوته يساعدهم ويهتم بشؤونهم، ومع رفاقه الصديق الصدوق الأمين.
كان مجتهداً في دراسته، ولكن صفحات الكتب لم تختزل منه حبّ المشاركة والمبادرة في الحياة. ولأنه ترعرع في بيئة مجاهدة، فقد احتلَّ مفهوم المقاومة جزءاً مهماً في منظومة حياته، لذا، التحق بكشافة الإمام المهدي عجل الله فرجه، ليكون له جهاده الخاص، حتى إذا ما بلغ أشده، التحق بأولى الدورات العسكرية له. تميّز "السيد عماد" بالوعي العميق للأمور، والفهم وسعة الأفق، ولم يخجل يوماً من تقديم اعتذارٍ أو توضيحٍ لأحد، إذا ما زلّ لسانه بهفوة، أو أُسيء فهمه. وكان ذلك أثراً من الآثار الكثيرة التي ترجمتها تصرفاته، وبيّنت أن عينه لم تغفل عن تربيته لنفسه ومراقبته لها حتى آخر لحظة من حياته الدنيوية. مع رفاقٍ في القرية، عاشَ شبابه تلميذاً ومجاهداً، ومن صفوف التعبئة إلى الوقوف جنباً إلى جنب مع المجاهدين في المحاور المتقدمة، والمشاركة في العمليات العسكرية والمهمات الجهادية، التي كان أبرزها "عملية الغجر" في العام 2005، والتي استشهد خلالها رفيقاه المجاهدان محمد باقر الموسوي وعلي شمس الدين. كانت أمه تعرف أن شوقه للرحيل عن هذه الدنيا قد تخطّى حدود الصبر. وما كان يصبّرها على فراقه، أنه سيكون مع جده الإمام الحسين عليه السلام. وكما كانت تقف عند الباب لتودعه طفلاً إلى المدرسة، أو تركض إليه لتمسح التراب عن وجهه الضاحك بعد عودته من لعب كرة القدم، فيقبّل يدها، ويخبرها بحماسة كيف استطاع فريقهم أن يهزم الفريق الآخر، وكيف يحملُ حقيبته ودعاؤها يخفق بين جنبيه، وهو يلتفت ليلّوح لها قبل أن يغيب، عرفت أن يوماً ما ستقف عند الباب، ولكنه لن يعود. إنها تذكره كم كان منصفاً في الحديث عن الربح والخسارة، ففريق "الوفاء الرياضي" الذي كان أحد أبرز لاعبيه، يشهد له كيف أنه لم يدّعِ يوماً أحقية ربحٍ، ويتهرّب من مسؤولية ضياع فرص.
ولكن، لا شيء يضاهي وصف حماسته لجبن الصهاينة، وكيف يولون الأدبار من ساحة المعركة. تلك الروح الرياضية التي نمّت عن أخلاقٍ رفيعة، هي ذاتها التي كانت تسافر من الدنيا في محراب الصلاة بين يدي الله، في مسجد كان حصنه، ومعراج صلاته، وكلما وضع كفيه على الأرض ليسجد لله، تذكر تراب الجنوب الذي اخضلّ بدماء المئات من الشهداء الذين سبقوه. كانت الأيام تنقضي و"السيد عماد" يتحين فرص المشاركة في أي مهمة، عسى روحه تنال ما تريد، فهو لم ينتسب إلى الجامعة بعد إنهائه المرحلة الثانوية، لأنه اختزل كل وقته في عمله، أما في أوقات فراغه القليلة فكان يهتم بتفاصيل بناء منزله.
في الليلة الأخيرة له، سهر مع والدته حتى الصباح، ذكّرها بمنامٍ رآه في شهر أيار أثناء خضوعه لدورة عسكرية، وفيه الشهيد السيد محمد باقر الموسوي يعطيه قميصاً، وقال له إن اللقاء قريب. وأخبرها أنه منذ فترة قصيرة جداً، رأى الشهيد السيد عباس الموسوي رضي الله عنه، فشعر بأن أمنيته لاحت له في الأفق، وفي صباح السابع من تموز لعام 2006 حمل السيد عماد حقيبته متوجهاً إلى الجنوب.
بقي هناك حتى تمت عملية الأسر في عيتا الشعب، والتي شنّ العدو الإسرائيلي على أثرها حرباً تدميرية على لبنان، كان قد خطط لها منذ زمن. لم يستطع "السيد عماد" التواصل مع أهله، وطوال فترة الحرب، لم يعرف الأهل أي شيء عنه، إلى أن زفّته المقاومة الإسلامية شهيداً مع ثلّة من إخوانه الذي صمدوا بوجه العدو في مدينة بنت جبيل. فبينما ظلّ العدو الإسرائيلي يحاول الدخول إلى مدينة بنت جبيل، وبعد الهزيمة المرة التي تلّقاها في قرية مارون الراس، فإن المواجهات البطولية التي جرت وجهاً لوجه، ستبقى محفورة أبداً في وجدان الأمة.
كان "السيد عماد" أسداً في المعارك، مبادراً لم تهن عزيمته ولم تفتر، وشارك في إحدى أبرز المواجهات البطولية. وكلما قتل جندياً إسرائيلياً، أبلغ الأخوة عبر الجهاز اللاسلكي، حتى وصل العدد إلى سبعة، قبل أن ينقطع التواصل الأخير معه. استقرّت رصاصة واحدة في صدره، وقد لونت دماؤه السيف الفضي المعلّق في عنقه والذي لم يكن يخلعه أبداً، وحمل الرفاق الذين عادوا حقيبته، وقد أطلقت أمه زغرودة طويلة له في استقباله، وهي تنثر عليه الورد والدموع، قبل أن يستقر في المنزل الذي حلم أن يسكنه.
كان السيد عماد ورفاقه، هم الوعد الصادق، والعهد الناطق، بأنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه وما بدلوا تبديلاً