هادي قبيسي
يتمحور موضوع هذه المقالة حول السؤال التالي: ما المكانة التي أعطاها الإسلام للأدب؟ وقبل المبادرة إلى خوض لب الموضوع لا بد من الإشارة إلى دور الأدب في المجتمع والمسؤوليات المناطة به على مستوى الحضارة الإنسانية. الأدب هو الإطار الذي تتبلور فيه ملامح الأمة وبه تتضح أعماقها الفكرية والحضارية والروحية والفلسفية. إلا أن ما يميزه عن الفكر المجرد والتاريخ وعلم الفلسفة وعلم الأخلاق والعرفان، هو أنه يتضمن الفكرة والأسلوب كذلك. إنه الفكرة وأسلوبها. ودور الأسلوب هنا هو إيصال الرسالة عبر مواصفات تؤدي إلى تحقيق أهداف ومرامي الفكرة بطريق قريب إلى الحياة المنزلية اليومية وقريب إلى تناقضات النفس البشرية وخطابها مع ذاتها وبيئتها، بحيث يبتعد الأدب عن مخاطبة العقل أو الروح حصراً، ويجمع إليهما خطاب العاطفة ويحاكي البيئة الاجتماعية بكل ما فيها من سلب أو إيجاب.
إحاطة الفكرة بكل هذه الديباجة تؤدي هدفها دون اللجوء إلى البرهان العقلي المباشر، وتترك حقائق الوجود الغيبي والشهودي تنساب في قالب بسيط وجذاب يجر القارئ إلى إدراك ما لم يكن يدركه من هذه الحقائق بشكل لا إكتسابي ولا تعلمي يعتمد اللغة غير المباشرة. وإذا كان مفاد ما مضى يؤكد أهمية الأدب في صناعة هوية الأمة والحفاظ عليها من تقلبات الزمن وبلورتها وتعميق الإرتباط بها، فهل يعقل أن يكون الإسلام، صانع الحضارات، بعيداً عن هذه الوسيلة؟ في الحقيقة لقد أفاض علماؤنا في الحديث عن أدب القرآن وبلاغته والفنون المتعددة التي تحدث بها إلى البشرية، ولكن السؤال يبقى يتردد في أذهاننا: هل دعانا الإسلام إلى اعتماد فنون الأدب وأساليبه في مخاطبة الناس، أو قلها بلغة أخرى: في تبليغهم ودعوتهم؟ سنبين رأي الإسلام في أبعاد العمل الأدبي كلَّ بعدٍ على حدة، وسيتبين من استذكار الأحاديث الشريفة والآيات التي جمعناها من كتاب "التبليغ في الإسلام"(1) أن الإسلام قد اعتنى بالأدب، إن لم نقل قد اعتمد عليه في ايصال رسالته إلى الشعوب، ودعا المبلغين إلى عدم التهاون بالمواصفات الأدبية لعملية التبليغ.
*الإرتباط بالمجتمع والبيئة
لقد حاول الأدب الإسلامي، خصوصاً في الحالة الإسلامية في لبنان، الابتعاد عن ملامسة الواقع الاجتماعي الذي يغرق في التناقضات الشخصية والاجتماعية، والذي تتمحور داخله حالة الصراع بين نشأتي الإنسان: المادية الدنيوية، والروحية الملكوتية. فقد اعتمد هذا الأدب التركيز على صورة المثال الأعلى الذي وضعه الإسلام للنفس البشرية، دون التطرق إلى المسار الزمني المجزأ إلى مراحل، والذي ينبغي على صاحب هذا المثال الأعلى أن يقطعه عبر صراع طويل مع نشأته الدنيوية قبل أن يتمخض ذاك الصراع عن نفس ملكوتية متعالية عن هذا العالم. وإذا نظرنا إلى دور الأدب في المجتمع، من زاوية حفظ الهوية الدينية والحضارية، فإن عدم التطرق إلى الصراع الذي ينبغي على الإنسان أن يقطعه، والذي تنبع تناقضاته من واقعه الاجتماعي المادي، يُفقد الأدب دوره في جعل رجل الشارع عالماً بزمانه "لا تهجم عليه اللوابس"(2) يستطيع تبين السبيل إلى مواجهة نفسه الأمارة بالسوء من خلال المثال الذي يقدمه الأدب، بحيث يجره إلى التبصر بحقائق الوجود ومرامي الحياة الدنيا وأهدافها وموقع الإنسان في هذا العالم، بلغة بسيطة وسلسة تترك شعوره ينساق نحو إدراك تلك الحقائق، فعن الإمام الصادق لأحد خواصه: "لا تحملوا على شيعتنا، وارفقوا بهم، فإن الناس لا يحتملون ما تحملون"(3). ولا يخفى على أحد أن "الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم"(4) كما يقول عليه السلام، فلكل زمن بيئته ولكل مجتمع تناقضاته ومحنه وتمظهرات خاصة للنشأة الدنيوية الفردية والاجتماعية، والتي ينبغي على الأدب أن يتصدى لطرق وأساليب مواجهتها.
*اللامباشرة في الأدب:
يتمتع الأدب بخاصية هامة جداً تساهم في تأدية مسؤوليته تجاه المجتمع والتاريخ، وهي خاصية اللامباشرة. فليس على القارئ أن يواجه الحقائق الإسلامية العميقة الغور بشكل مباشر، فإن "الدين متين فأوغلوا فيه برفق" كما يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله. وإن المواضيع الفلسفية العميقة التي يطرحها الإسلام لهي بأمس الحاجة إلى التدرج في التوغل فيها. وتدخل حالة التأمل والتفكر، التي تعتبر إحدى جماليات الأدب، في سياق هذا التدرج في المعرفة، خصوصاً إذا التفتنا إلى أن هذه المعرفة يجب أن تكون قلبية شعورية، لا عقلية مجردة وجامدة. وتبرز هذه الخاصية الأدبية والجمالية التي تدور حول اللامباشرة في أسلوب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في التبليغ إذ يذكر خوات بن جبير، أحد الصحابة، ما يلي: "نزلنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله... فخرجت من خبائي، فإذا أنا بنسوة يتحدثن فأعجبنني، فرجعت فاستخرجت عيبتي فاستخرجت منها حلة فلبستها وجئت فجلست معهن، وخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وآله من قبته فقال: أبا عبد اللَّه، ما يجلسك معهن؟ فلما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله هبته واختلطت، قلت: يا رسول اللَّه جملٌ لي شرد، فأنا أبتغي له قيداً... فمضى... وتوضأ فأقبل والماء يسيل من لحيته على صدره فقال: أبا عبد اللَّه ما فعل شراد جملك؟"(5). والقصة المشهورة التي تبرز اهتمام رجالات الإسلام بالتزام التعليم غير المباشر، هي قصة الحسن والحسين عليه السلام، عندما مرا بذلك الشيخ "يتوضأ ولا يحسن، فأخذا بالتنازع يقول كل واحدٍ منهما: أنت لا تحسن الوضوء. فقالا: أيها الشيخ، كن حكماً بيننا. يتوضأ كل واحد منا سوية. ثم قالا: أينا يحسن؟ قال: كلاكما تحسنان الوضوء، ولكن هذا الشيخ الجاهل هو الذي لم يكن يحسن، وقد تعلم الآن منكما، وتاب على يديكما ببركتكما وشفقتكما على أمة جدكما"(6).
*اللااكتسابية واللاتعلمية:
تتضمن القصة الآنفة الذكر خاصية اللاتعلمية واللااكتسابية، إذ لم يقم الحسنان عليه السلام بتلقين الشيخ وتعليمه طريق الوضوء، بل قاما بمسرحية تمثيلية تخللها المفهوم الذي أرادا أن يصل إليه. وفي هذا تأكيد على أن التعليم بالفعل يكون لا بالقول. وكذا في الأعمال الأدبية، ينبغي أن تقوم إلى جانب الكتابات التجريدية المفاهيمية، كتابات تمثل حالة الإنسان السوي والصحيح دون التطرق المباشر إلى فلسفة أعماله، وذلك اعتماداً على أن الفلسفة الإسلامية تنسجم مع الفطرة الإنسانية التي تشترك فيها البشرية جمعاء. ويقول علي عليه السلام: "إن الوعظ الذي لا يمجه سمع ولا يعدله نفع: ما سكت عنه لسان القول، ونطق به لسان الفعل"(7).
*اختيار الأسلوب البليغ:
"إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحِكَماً"(8) بهذا يشير رسول اللَّه صلى الله عليه وآله إلى دور الوسيلة والأسلوب في التبليغ. وفي ذلك العصر الذي كانت الثقافة فيه تنزل منزل الشعر وتنطلق منه، أكد النبي صلى الله عليه وآله على أن للبيان سحراً وتأثيراً في المجتمع. ولا بد من الإشارة إلى أن عالم اليوم يضج بوسائل الإعلام والتبليغ، وتدرس الدول الكبرى والشركات المتعددة الجنسيات سياسات إعلامية تؤدي إلى التأثير في المجتمعات في مختلف الحضارات بما يناسب مصالحها. وما كان الغزو الثقافي لينجح بهذا الشكل المذهل لو لم يتبع آخر ما توصل إليه العلم الحديث في دراسة أساليب التأثير على الرأي العام، وبالتالي أساليب محق الهوية وتبديلها والسيطرة على رؤى وتطلعات وأفكار وفلسفة حياة البشر. وتحت مفهوم الوسائل البليغة ندخل عالم الصورة والشكل وجمالياته، ولم يهمل الإسلام ذلك حيث يقول الرسول صلى الله عليه وآله في قوله تعالى: "أو إثارة من علم": جودة الخط(9). وقال علي عليه السلام: "عقول الفضلاء في أطراف أقلامها"(10).
*مراعاة المتلقي:
الأديب يختار الخطاب الذي يؤثر في مجتمعه، عندما يكون هدفه من عمله الفني، أياً كان شكله، إضافة شيء ما إلى حضارته أو بلورة مفاهيم قديمة على قياس الحاضر. فلهذا عندما يغفل الأديب عن المتلقي ومستواه الفكري والتذوقي والأدبي يفقد عمله إمكانيات التأثير. ولقد أشار علي عليه السلام إلى هذه المشكلة بلغة نقدية بليغة: "لا تعامل العامة في ما أنعم به عليك من العلم كما تعامل الخاصة... واذكر قول العبد الصالح لموسى، وقد قال له ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ قال: ﴿قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ﴾(11). وعن الرضا قال لأحد خواصه: "قل للعباسي يكف عن الكلام في التوحيد وغيره، ويكلم الناس بما يعرفون، ويكف عما ينكرون"(12).
(1) الريشهري، محمد، دار الحديث.
(2) الريشهري، ص111.
(3) الريشهري، ص132.
(4) الريشهري، ص111.
(5) الريشهري، ص163.
(6) الريشهري، ص220.
(7) الريشهري، ص141.
(8) الريشهري، ص151.
(9) الريشهري، ص154.
(10) الريشهري، ص155.
(11) الريشهري، ص168.
(12) الريشهري، ص169.