مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

قراءة في كتاب‏: "في رحاب نهج البلاغة"

للشهيد مطهري‏

قراءتنا في كتاب هذا العدد تتناول كتاب العلامة الشهيد مرتضى المطهري "في رحاب نهج البلاغة". وما يثير الدهشة في هذا المؤلف هو جولته وصولته في كافة ميادين المعرفة الإسلامية منها وغيرها. فليس من قضية معرفية، أو معضلة فلسفية، أو مشكلة اجتماعية، إلا وتجد له فيها مؤلف أو مؤلفات. فهو في الفقه فقيه، وفي الفلسفة فيلسوف، وفي التفسير مفسّر، وفي المفاهيم مبيِّن موضح، وفي التاريخ محقق ضليع، وفي الاقتصاد عارف خبير، وفي الخطابة بارع بليغ، وفي الأخلاق مهذب رفيع. وما كتابه الذي بين أيدينا إلا حلقة في تاريخ هذه السلسلة الممتدة، والكلمة الطيبة التي ﴿أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. وهو عبارة عن دراسة تحقيقية في محتويات مواضيع عدة من نهج البلاغة، سلَّط فيها الأستاذ الشهيد الضوء عليها، وبلور مفاهيمها. هذا وكانت هذه المواضيع قد ألقيت في خمس محاضرات لشهيد، في حسينية إرشاد، ثم ما لبثت أن نشرت على شكل مقالات في مجلة (مكتب إسلام)، ليجمعها الشهيد بعد ذلك في هذا الكتاب.

كتاب في غاية الأهمية، غني بمفاهيمه ومعلوماته، واقع في 240 صفحة من الحجم الكبير. ترجمه إلى العربية الشيخ هادي اليوسفي وطبع في دار التبليغ الإسلامي ببيروت، وقد جاء الكتاب في سبعة أقسام قدَّم لها العلامة بالكلام عن كيفية معرفته لنهج البلاغة، متوقفاً في ذلك عند كلام عن أستاذه الذي عرّفه الأول مرة إياه (معرفة حقيقية) ألا وهو العامل الرباني المرحوم الشيخ الحاج ميرزا علي آقا الشيرازي الأصفهاني قدس سره. ومن ثم انتقل للحديث عن مجتمعنا ونهج البلاغة الذي لم يكن هو الآخر يعرف نهج البلاغة، إلا في حدود ضيقة تتوقف عند شرح المفردات والألفاظ، في حين كان الروح والمحتوى لهذا الكتاب خفياً، إلى أن بدأت في عصرنا الحاضر، معالم انفتاح على هذا الكتاب، بل إن "نهج البلاغة أخذ يفتتح العالم الإسلامي" على حد تعبير المؤلف.

* القسم الأول
ابتدأ المؤلف هذا القسم بالكلام عن غرابة هذه المجموعة النفيسة من نهج البلاغة، التي لم تستطع يد الزمان أن تبليها، بل زادتها قيمة وبهاءً. ذلك أن من صدرت عنه، يعتبر بحق، رباً للبلاغة وسيداً لها.
بعد ذلك عرض المطهري لمسألة مهمة ألا وهي أن جامع كتاب نهج البلاغة السيد الرضي غفل عن ذكر أسانيد ومصادر ما جاء في هذا الكتاب الشريف. ولعلَّ السبب في ذلك يعود إلى كونه مولعاً بالبلاغة والأدب، ولذلك لم يهتم إلا بهذين الجانبين. ومن حسن الحظ أن تعهد بجمع أسانيده ومصادره رجال آخرون من المتأخرين. ولعلّ أجمعها وأوسعها كتاب "نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة" للعلامة الشيخ محمد باقر المحمودي الدَّسُتي. هذا مع العلم أن عدم جمع مصادر وأسانيد أي كتاب أدبي، لا يؤثر شيئاً في اعتباره وقيمته، وإنما الاعتبار كامن في جماله وحلاوته ولطفه.

ويعتبر المطهري أن ميزتين مهمتين، يمتاز بهما نهج البلاغة هما: البلاغة والشمول اللذان أثرا في جعل كلامه "فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق". فإذا رجعنا إلى الميزة الأولى نرى الفصاحة والجمال طاغيين في كلماته عليه السلام، مما يجعلان وقعها مؤثراً في نفس مستمعها، مهما تقدم الزمان. حتى لقد شهد له بذلك الصديق والعدو. نذكر من الأصدقاء: ابن عباس الذي كان عارفاً بفنون الكلام ومع ذلك كان شديد الاستيناس بالاستماع إلى كلامه عليه السلام، حيث ورد عنه قوله بعد أن سمع الخطبة الشقشقية للإمام: "ما انتفعت بكلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانتفاعي بهذا الكلام". "فوالله ما سنَّ الفصاحة لقريش غيره". وبالانتقال إلى النفوذ وقوة التأثير عند الإمام عليه السلام، نجد بأن مواعظه كانت تهز القلوب وتسيل الدموع. وقد وصل الأمر في بعضها إلى خرور بعض أصحابه (همَّام) ميتاً.

هذا وقد ذكر المؤلف كلمات قيلت في الإمام عليه السلام، من قبل أدباء بارعين مشهورين، قدامى ومعاصرين. وبرجوعنا إلى الشمول والاستيعاب في كلمات الإمام علي عليه السلام، نرى أنه تفرد دون غيره من العبقريات والنوابغ، في الخوض في مختلف الميادين. (فقد صال وجال ببيانه في ميادين مختلفة، لا يجتمع بعضها مع الآخر في الرجل الواحد". كما أن كلامه جاء عاماً غير محدود بحدود الزمان أو المكان أو الأشخاص بشكل خاص، فهو يخاطب الإنسان ككل، لذا لم يعرف حداً للمكان أو الزمان. هذا وقد نظر المؤلف، في نهاية هذا القسم، نظرة عامة في مباحث نهج البلاغة.

* القسم الثاني
في هذا القسم درس العلامة المطهري مباحث التوحيد وما وراء الطبيعة في نهج البلاغة. فاعتبرها من أعجب البحوث في هذا الكتاب، وأنها تقرب من حد الإعجاز. وقد جاءت هذه البحوث على أشكال متنوعة. فمنها ما عرض فيها الإمام للنظام في العالم. ومنها ما شرح فيها مخلوقاً غريباً، بيَّن من خلاله آثار الصنع والحكمة والتدبير والهدفية، كوصف النملة. وأخيراً البحوث العقلية والفلسفية (وهذه تمثل الجانب الأكبر) وقد بلغ فيها الإمام الذروة في البحث العقلي والفلسفي. ويبنتى البحث فيها على أساس إطلاق الخالق عن جميع القيود والحدود.

بعد ذلك انتقل المطهري إلى الكلام عن نشأة الفكر الفلسفي عند الشيعة. فرأى أن أسسه وجذوره تعود إلى البحوث في المعارف الإلهية، التي خاضها أئمة أهل البيت عليهم السلام بالتحليل والتحقيق، وفي مقدمتها نهج البلاغة، التي فلسفت العقل الشيعي منذ قديم الأزمان. ومن هنا فإن الشيعة خاضوا في مثل هذه البحوث منذ الصدر الأول للإسلام. لا كما ادعى الكاتب أحمد أمين بأن السبب في ذلك يعود إلى محاولات الشيعة التأويلية الباطنية، ولا - كما رأى البعض - أن العنصر الفارسي المفكر هو الذي رفع المعارف الشيعية بعقله وفكره، ثم صبغها بصبغة إسلامية.

ونتيجة لهذه الادعاءات، شكك البعض في صحة انتساب هذا النوع من الكلمات - في نهج البلاغة - إلى الإمام علي عليه السلام لزعمهم أن العرب لم يكونوا يعرفون هذه المعاني والمفاهيم قبل فلسفة اليونان. والحقيقة أنهم لم يعرفوا ما في نهج البلاغة من هذه المفاهيم، حتى بعد فلسفة اليونان، ولم يعرفها العرب قبل الإسلام، بل حتى الفلسفة اليونانية لم تعرفها، لأن هذه المعاني من خصائص الإسلام فحسب، واستوحاها المسلمون من سائر المبادئ‏ الإسلامية، ثم أدخلوها في الفلسفة الإسلامية.

كما تناول الشهيد، في هذا القسم دور الفكر الفلسفي في ما وراء الطبيعة، فرأى أن المعارف الإلهية في نهج البلاغة على نوعين: منها ما ينهج منهج التحقيق والتأمل في العالم المحسوس للاستدلال على الخالق وعظمته وقدرته - الخ. ومنها ما ينهج منهجاً عقلياً بحتاً. وقد نفى بعضهم نسبة هذا النوع الأخير إلى نهج البلاغة، وذلك أنهم اعتبروا الخوص في هذا النوع من المباحث حراماً شرعاً. وأن الواجب على المسلم أن يعتبد بما يفهمه العرف العام من ظواهر النصوص. ههذ الفكرة إلى جانب الفكرة القائلة بعدم اعتبار الفكر العقلي - لا في الطبيعيات فحسب، بل في كل شي‏ء - وأن الفلسفة الصحيحة إنما هي الفلسفة الحسية التي ظهرت إثر غلبة الفكر التجريبي والحسي على الفكر العقلي، أدّتا إلى طرد الطريقة العقلية من المعارف الإلهية عند عدد من الكتاب المسلمين من غير الشيعة، زاعمين أن الطريق الوحيد لمعرفة الله في القرآن يتمثل في الطريقة الحسية والتجريبية، أي النظر في آيات الآفاق والأنفس. هذا من الناحية الشرعية.

أما من الناحية العقلية، فتمسكوا بأقوال فلاسفة الغرب التجريبيين فأفرغوها في مقالاتهم وكتبهم. ويرى الشهيد في مقام الرد على هذه المزاعم أن القرآن الكريم، طرح إلى جانب الآيات التي تحث على النظر في الآثار مسائل إلهية أخرى، لا يقوم البرهان عليها بمجرد النظر في الخلقة والطبيعة. كما أن النظر في آثار الصنع لا يساعد سوى في معرفة أن في هذا العالم قوة مدبرة حكيمة وعلمية، وأن وراء عالم الطبيعة هذا عالم آخر. أما عن مسألة كون الله خالقاً غير مخلوق وواجباً في وجوده وواحداً، فإن النظر في الآثار الحسية لا يفيدنا شيئاً في هذا المجال.

ومن هنا نخلص إلى القول: أن نطاق المسائل التي طرحها القرآن في موضوع ما وراء الطبيعة، أوسع بكثير من أن يتمكن النظر في المخلوقات المادية من أن يجيب عليها. وهذا هو الذي بعض المسلمين على أن يسلوا سبل تحصيل الإجابة عن طريق العقل والفكر والفلسفة وغيرها. وما غرض الإمام علي عليه السلام من الخوض في هكذا مسائل إلا تفسير ما ورد منها في القرآن الكريم. بعد الإشارة إلى هذه البحوث ذكر الشهيد مطهري عدة نماذج لها من نهج البلاغة، وهي من قبيل ذات الله وصفاته، ووحدانيته وأنها ليست وحدة عددية، والأولية الآخرية، والظاهرية والباطنية.
ومن ثم انتقل في نهاية هذا القسم إلى عرض دراسة مقارنة بين نهج البلاغة والأفكار: الكلامية، الفلسفية الإسلامية، والفلسفية الغربية.

* القسم الثالث
في هذا القسم، عرض الشهيد للكلام عن العبادة في نهج البلاغة، مقدماً لها بالكلام عن العبادة في الإسلام، وما تمثله من قيمة تتجاوز المظاهر والطقوس، لتمثل حالة القرب والعروج إلى الله سبحانه، وتجسيد العبودية له، دون الانفصال بها عن الحياة، بل لتكون توأماً معها، وفي صميم فلسفتها.
هذا وقد ذكر العلامة الشهيد نماذج من كلمات الإمام عليه السلام، تتحدث عن اختلاف تصورات الناس عن العبادة "أن قوماً عبدوا لله رغبة فتلك عبادة التجار، وأن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وأن قوماً عبدوا الله شكراً، فتلك عبادة الأحرار" وذكر الله تعالى "أن الله تعالى جعل الذكر جلاء القلوب، وتسمع به بعد الوقرة، وتبصر به بعد البرهة. وفي أزمان الفترات، رجال ناجاهم في فكرهم، وكلمهم في ذات عقولهم" ومقامات المتقين "فتحت لهم أبواب السماء، وأعدت لهم مقاعد الكرامات، في مقام اطلع الله عليهم فرضي سعيهم وحمد مقامهم يتنسمون بدعائه روح التجاوز" وليالي أولياء الله "وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم، وهمهمت بذكر ربهم شفاههم، وتقشعت بطول استغفارهم ذنوبهم أولئك حزب الله ألا أن حزب الله هم المفلحون" وسيماء الصالحين، وذكر الله في الأسحار، والخواطر القلبية.
كما بين في كثير من كلماته أهمية العبادة حيث أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر وتعالج مفاسد الأخلاق، وفيها لذة مناجاة الله.

* القسم الرابع
يدور الكلام في هذا القسم حول مسألتي الحكومة والعدالة في نهج البلاغة ونظرة الإمام عليه السلام لهما. فبالنسبة لموقفه من الحكومة نرى أنه عليه السلام يصرح في كثير من كلماته بوجود وجود حكومة قوية. وقد كافح فكرة الخوارج بشدة والتي مفادها عدم الحاجة إلى الحكومة مع وجود القرآن الكريم. وكان شعارهم في هذا المجال. (لا حكم إلا لله). وكان رد الإمام عليه السلام عليهم قاطعاً، حيث كان يقول في هذا الشعار: "كلمة حق يراد بها باطل، نعم أنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله، وأنه لا بد للناس من أمير براَّ أو فاجر". فالإمام عليه السلام كسائر الرجال الربانيين، يحتقر الحكومة بصفتها مقاماً دنيوياً يشبع غريزة في الإنسان. وهي إذ ذاك عنده أهون من عظم خنزير في يد مجذوم. ولكنه عليه السلام يقدسها تقديساً عظيماً، إذا كانت مستقيمة غير محرّفة عن سبيلها الأصيل والواقعي الحق، كأن تكون وسيلة لإجراء العدل وإحقاق الحق وخدمة الخلق.
وهذا يتوافق تماماً مع ما رواه عنه ابن عباس، قال: دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار وهو يخصف نعله. فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقل: لا قيمة لها. فقال عليه السلام: والله لهي أحب إليَّ من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً. هذا موقفه من الحكومة.

أما العدالة، فهي تشكل عنده نقطة هامة جداً، يجب توفرها في الحاكم حيث يعتبر أميناً على مصالح الناس ورعاية شؤونهم، لا مالكاً للحكم، وتقع عليه مهمة إيصالهم إلى الكمال والسعادة والسير بهم في الطريق القويم. وعليه أن يحافظ على هذه العدالة، فلا يضحي بها لمصلحة مهما عظمت. وهذا ما كان متجسداً فيه عليه السلام حين جاء إليه بعض أصحابه ناصحين إياه بمداهنة معاوية وتقريبه منه وإغداق الأموال عليه ليأمن مكره وخادعه، فقال عليه السلام: "أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور"؟ والله ما أطور به ما سمَّر سمير، وأمَّ نجم في السماء نجماً، لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله؟.
وقد سئل ذات مرة: العدل سائس أفضل أم الجود؟ فقال: العدل يضع الأمور مواضعه، والجود يخرجها من جهتها. العدل سائس عام والجود عارض خاص. فالعدل أشرفهما وأفضلهما.
فالعدل إذاً في نظر الإمام عليه السلام هو الأصل الذي يستطيع أن يصون توازن المجتمع ويرضيه ويهب له السلام والأمن والطمأنينة والاستقرار.

* القسم الخامس
تمحور الكلام في هذا القسم حول أهل البيت عليه السلام واستحقاقهم للخلافة، دون غيرهم لما وصلوا إليه من مقام شامخ وسام.
"نحن شجرة النبوة، ومهبط الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعادن العلم وينابيع الحكم".
"نحن الشعار والأصحاب، والخزنة والأبواب، لا تأتى البيوت إلا من أبوابها فمن أتاها من غير أبوابها سمي سراقاً.
ثم انتقل الكلام إلى تبيان حق الإمام وأولويته في الخلافة استناداً إلى أصول ثلاثة هي:
أ - النص عليه عليه السلام من قبل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
ب - استحقاق نفسه المقدسة، وعدم لياقة الخلافة إلا به.
ج - علاقاته الروحية والنسبية برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

نذكر في هذا المجال أروع ما نقل عنه عليه السلام في تبيانه لاستحقاقه وأهليته للخلافة، من الخطبة الشقشقية: "أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة، وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل ولا يرقى إليَّ الطير". بعدها تناول المطهر عليه الرحمة، الحديث عن نقد الإمام عليه السلام للخلفاء السابقين في نهج البلاغة الذي كن عاماً تارةً وخاصاً أخرى.
وفي نهاية هذا القسم، وضع المؤلف على طاولة البحث، موقفان عظيمان للإمام علي عليه السلام اعتمدهما في حياته حسبما قضت متطلبات الزمان والمصلحة العامة للإسلام والمسلمين، هما: الإحجام والسكوت عن حقه بالخلافة، حرصاً منه على مصلحة الإسلام ووحدة الصف. "وإيم الله لولا مخافة الفرقة بين المسلمين وأن يعود الكفر ويبور الدين، لكنا على غير ما كنَّا عليه"... و"..قد علمتم أني أحق الناس بها من غيري، والله لأسلِّمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليَّ خاصة". هذا عن سكوته، أما عن قيامه الأهم والأعظم، فهو قيامه الذي انفرد به وباهى به، في وجه كل من خرج عليه من عائشة وطلحة والزبير والخوارج ومعاوية، فيقول في ذلك: "... فأنا فقأت عين الفتنة، ولم يكن ليجترئ‏ء عليها أحد غيري، بعد أن ماج غيهبها واشتد كلبها".

* القسم السادس
في هذا القسم، تعرض الشهيد للكلام عن مواعظ نهج البلاغة، تلك المواعظ التي لا نظير لها من حيث المكانة والمؤثرية، وقارنها مع سائر المواعظ والنصائح في تاريخ الأدب الإسلامي (العربي والفارسي) فلم يجد لها نظيراً، وبعد أن طغت الموعظة على أكثر أبواب نهج البلاغة، فقد عرض المؤلف لبعض مواضيعها في كلام الإمام عليه السلام فتطرق للكلام عن التقوى، وما تفعله من وقاية الإنسان والمحافظة عليه، لا كما يتصور البعض، من أنها تشكل قيداً لحركته.
ثم انتقل بعد ذلك إلى الزهد، مقارناً بينه وبين الرهبنة، موضحاً أن هذه الأخيرة لا تمت إلى الزهد بصلة، من خلال عرضه لأصول الزهد في الإسلام والتي تتمثل في الإيثار والمساواة والتحرر والمعنوية، مبيناً إلى جانب ذلك أن "الدنيا والآخرية عدوان متفاوتان، وسبيلان مختلفان، فمن أحب الدنيا وتولاها أبغض الآخرة وعاداها. وهما بمنزلة المشرق والمغرب وما شي‏ء بينهما، كلما قرب من واحد بعد من الآخر. وهما بعد ضرَّتان".

* القسم السابع
في هذا القسم، تناول الشهيد الكلام عن مفهوم حب الدنيا فبين المقصود من الدنيا المذمومة والدنيا الممدوحة. فالدنيا المذمومة هي تلك التي توجب أسر الإنسان إليها وتجعله متعلقاً بها إلى درجة العبودية، بحيث يصرفه هذا التعلق عن الهدف والغاية التي خلق لأجله.
والدنيا الممدوحة هي تلك التي تكون وسيلة وطريقاً إلى الهدف والغاية، لا تلك التي تكون بحد ذاتها هدفاً، فهي إذاً "مزرعة الآخرة" و "متجر أولياء الله" و "مسجد أحباء الله". هي تلك الدنيا التي يجسد فيها الإنسان إنسانيته، عن طريق السير في الاتجاه السليم والصحيح الذي رسمه الله له. وبعد أن عرض لنبذة من الآيات القرآنية وكلمات الإمام علي عليه السلام تناولت الكلام عن الدنيا وغرورها وعلاقة الإنسان بها. عاد المؤلف إلى الكلام عن كيفية كون الدنيا والآخرة ضرتان، وكيفية مطابقة ذلك مع ما ذكرنا سابقاً من كونها ممدوحة في بعض الحالات، وأنها قد تكون موصلة إلى الله تعالى، فقال: "إن الإسلام لا يمنع الجمع بين العمل للآخرة والدنيا بمعنى الاستفادة منها، وإنما الممنوع منه في الإسلام هو الجمع بينهما، بمعنى الهدف والغاية".

إن الاستفادة من الدنيا ليست مما يوجب الحرمان من نعم الآخرة قطعاً، وإنما الذي يوجب ذلك هو ارتكاب الذنوب والآثام، لا الاستفادة المباحة من نعم الله الحلال في الدنيا ﴿قل من حرَّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟ قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة.
أخيراً، عرض المؤلف لإشكال طرحه الوجوديون، مفاده: أن على الإنسان حتى يحقق شخصيته أن يتحرر من جميع القيود المادية منها والمعنوية (تدخل ضمنها عبادة الله) التي تقف -على حد زعمهم- حجر عثرة في طري تكامله وتقدمه.

وبعد أن أسهب العلامة الشهيد في الرَّد على هذه المقولة، توصل إلى النتيجة التالية: "إن بين العلاقة بالله والحركة نحوه وعبادته والتسليم له وبين أي حركة أخرى وعلاقة أخرى وعبودية أخرى وتسليم آخر، تفاوتاً كثيراً وبعداً كبيراً كبعد المشرقين، فإن العبودية لله هي الحرية، وأن العلاقة به هي العلاقة الوحيدة التي ليس فيها جمود وتوقف. والعبودية الوحيدة التي ليس فيها فقدان للشخصية ونسيان الذات".
والدليل على ذلك، هو أن الله سبحانه هو كمال كل موجود، وهو المعبود الفطري لجميع الموجودات ﴿أن إلى ربك المنتهى. إذاً فالعبودية له هي الحرية، وفقدان الشخصية فيه هو وجدان للشخصية الواقعية وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم ﴿ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم﴾.
والحمد لله رب العالمين.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع