فيصل الأشمر
حين وضع المشرعون قوانينهم لبني البشر، أقروا، فيما أقروا من عقوبات على المجرمين، عقوبة السجن، كوسيلة لمعاقبة المعتدي وكرادع لسواه كي لا يعتديَ مثله. لكن هذه العقوبة التي افترضت الشرائع أنها للمجرمين، وقعت على غير هؤلاء من بني البشر أيضاً. فتم سجن من يخالف الحاكم ولو كان هذا ظالماً جائراً، ومن يقاوم المحتل والأجنبي، فإذا بالسجون تمتلئ على مر الأيام، بالثوار وطلاب العدالة، بالإضافة إلى المجرمين والمعتدين.
هذا، ويحفل ديوان الشعر العربي بالقصائد التي صوَّر فيها الشعراء ما عانوه من ظلم وظلام السجن، وما عاشوه من وجع القيد وألم النفس فيه. وشكّلت قصائدهم لوحاتٍ معبّرة جسّدت، كما لوحة الرسام بل أكثر لمحات الحزن والأسى، والثورة والغضب، التي ارتسمت على وجوه هؤلاء المساجين. وكي لا نطيل ولأن الشعرَ خير معبِّرٍ عن الموضوع نعرض فيما يلي نماذج شعرية لعدد من الشعراء الذين وُضعوا في السجون، بادئين بالشاعر أبي محجن الثقفي الذي يصف حاله في السجن فيقول:
كفى حَزَناً أن تُطعَنَ الخيلُ بالقَنا(1) |
وأُصبِحَ مَشدوداً عليَّ وَثَاقيا |
إذا قُمتُ عَنّاني(2) الحديدُ وأُغلِقَت |
مَصارعُ من دوني تُصِمُّ المُناديا |
وقد شَفّ جسمي أنني كلّ شارقٍ(3) |
أعالجُ كبلاً مُصمَتاً(4) قد بَرَانيا |
فللّه درِّي يوم أُترَكُ مُوثَقاً |
وتذهلُ عني أُسرتي ورجاليا |
ويصور صالح بن عبد القدّوس ما عاناه في سجنه، قائلاً (وقد نُسبت هذه الأبيات أيضاً لعبد الله الطالبي):
خَرَجنا من الدُنيا وَنَحنُ مِن أهلِها |
فَلَسنا مِن الأحياءِ فيها وَلا المَوتى |
اِذا دَخَل السجّانُ يَوماً لِحاجَةٍ |
عَجبنا وَقُلنا: جاءَ هذا من الدُنيا |
وَنَفرح بِالرُؤيا فَجُلّ حَديثنا، |
إِذا نَحنُ أصبَحنا، الحَديث عَن الرُؤيا |
طَوى دونَنا الأَخبارَ سِجنٌ مُمنَّع |
لَهُ حارِسٌ تَهدا العُيونُ ولا يَهدا |
قَبِرْنا وَلم نُدفن فَنَحن بِمَعزَل |
من الناسِ وَلا نَخشى فَنُغشى(5) |
وَلا نَغشى أَلا أحدٌ يَأوي لِأَهل محلة ٍ |
مُقيمينَ في الدُنيا وَقَد فارَقوا الدُنيا؟ |
كَأَنَّهُم لَم يَعرِفوا غَير دارِهِم |
وَلَم يَعرِفوا غَير التَضايق وَالبَلوى |
أما أبو فراس الحمداني، أشهر أسير بين الشعراء العرب، والذي أسره الروم في إحدى المعارك، فله قصائد كثيرة تصف حاله في السجن بعيداً عن أهله، وهي القصائد المعروفة ب"الروميات"، وقد تحدثنا عنه في مقالة سابقة، ومن أشهر قصائده اثنتان مطلع إحداهما:
أقول وقد ناحت بقربي حمامة |
أيا جارتا هل تشعرين بحالي |
ومطلع الثانية:
يا حَسرَةً ما أَكادُ أَحمِلُها |
آخِرُها مُزعِجٌ وَأَوَّلُها |
ويقول فيها مخاطباً سيف الدولة الحمداني:
يا واسِعَ الدارِ كَيفَ توسِعُها |
وَنَحنُ في صَخرَةٍ نُزَلزِلُها |
يا ناعِمَ الثَوبِ كَيفَ تُبدِلُهُ |
ثِيابُنا الصوفُ ما نُبَدِّلُها |
يا راكِبَ الخَيلِ لَو بَصُرتَ بِنا |
نَحمِلُ أَقيادَنا(6) وَنَنقُلُها |
رَأَيتَ في الضُرِّ أَوجُهاً كَرُمَت |
فارَقَ فيكَ الجَمالَ أَجمَلُها |
قَد أَثَّرَ الدَهرُ في مَحاسِنِها |
تَعرِفُها تارَةً وَتَجهَلُها |
ويأتي المعتمد بن عبّاد في المرتبة الثانية بعد أبي فراس في شهرته كشاعر عربي أسير، فقد كان حاكم إشبيلية وقرطبة وما حولهما من مناطق الأندلس، وكان يقصده العلماء والشعراء والأمراء، غير أن الحال تبدلت به بعد أن ثار عليه أحد الولاة، فتم اعتقاله وسجْنه في أغمات في مراكش. ومن قصائده في السجن قوله مخاطباً نفسه:
فيما مَضى كُنتَ بِالأَعيادِ مَسرورا |
فَساءَكَ العيدُ في أَغماتَ مَأسورا |
تَرى بَناتكَ في الأَطمارِ(7) جائِعَةً |
يَغزِلنَ لِلناسِ ما يَملِكنَ قِطميرا(8) |
بَرَزنَ نَحوَكَ لِلتَسليمِ خاشِعَةً |
أَبصارُهُنَّ حَسيراتٍ مَكاسيرا(9) |
يَطأنَ في الطين وَالأَقدامُ حافيَةٌ |
كَأَنَّها لَم تَطأ مِسكاً وَكافورا |
وفي قصيدة أخرى له يخاطب قيده، مذكراً إياه بأنه مسلمٌ، فيقول:
قَيدي أَما تَعلمني مُسلما |
أَبَيتَ أَن تُشفِقَ أَو تَرحَما |
دَمي شَرابٌ لَكَ وَاللَحمُ قَد |
أَكَلْتَهُ، لا تَهشمِ الأَعظُما |
ويرسم محمود سامي البارودي صورة معبرة عن حياته في السجن قائلاً:
شَفَّنِي(10) وَجْدِي وأَبْلانِي السَّهَرْ |
وَتَغَشَّتْنِي سَمَادِيرُ(11) الْكَدَرْ |
فَسَوادُ اللَّيْلِ مَا إِنْ يَنْقَضِي |
وَبَيَاضُ الصُّبْحِ مَا إِنْ يُنْتَظَرْ |
لا أَنِيسٌ يَسْمَعُ الشَّكْوَى وَلا |
خَبَرٌ يَأْتِي وَلا طَيْفٌ يَمُرْ |
بَيْنَ حِيطَانٍ وَبَابٍ مُوصَدٍ |
كُلَّمَا حَرَّكَهُ السَّجَّانُ صَرْ |
يَتَمَشَّى دُونَهُ حَتَّى إِذَا |
لَحِقَتْهُ نَبْأَةٌ(12) مِنِّي اسْتَقَرْ |
كُلَّمَا دُرْتُ لأَقْضِي حَاجَةً |
قَالَتِ الظُّلْمَةُ: مَهْلاً لا تَدُرْ |
أَتَقَرَّى(13) الشَّيءَ أَبْغِيهِ فَلا |
أَجِدُ الشَّيءَ وَلا نَفْسِي تَقَرْ |
ظُلْمَةٌ مَا إِنْ بِهَا مِنْ كَوْكَبٍ |
غَيرُ أَنْفَاسٍ تَرامَى بِالشَّرَرْ |
فَاصْبِرِي يَا نَفْسُ حَتَّى تَظْفَرِي |
إِنَّ حُسْنَ الصَّبْر مِفْتَاحُ الظَّفَرْ |
هِيَ أَنْفَاسٌ تقَضَّى وَالْفَتَى |
حَيْثُمَا كَانَ أَسِيرٌ لِلْقَدَرْ |
ويرى معروف الرصافي أن السجن موضع التعاسة والشقاء، فيقول:
هو السجن ما أدراك ما السجن إنه |
جلاد البلايا في مضيق التجلد |
بناءٌ محيط بالتعاسة والشقا |
لظلم بريء أو عقوبة معتدِ |
زُرِ السجن في بغداد زورةَ راحم |
لتشهد للأنكاد أفجع مشهد |
محل به تهفو القلوب من الأسى |
فإن زرته فاربط على القلب باليد |
أما أحمد الصافي النجفي الذي له ديوان أفرده للحديث عن السجن أسماه "حصاد السجن" فيقول في إحدى قصائده:
رمونا كالبضائع في سجونٍ |
وعافوا ولم يبدوا اكتراثا |
رمونا في السجون بلا أثاثٍ |
فأصبحنا لسجنهمُ أثاثا |
ويقول في قصيدة أخرى:
سجنوني في غرفة قد تعرّت |
فكأني سُجنت وسط قفارِ(14) |
جاعلاً من ترابها لي فراشاً |
وغطاءً يلفني من غبارِ |
ثم زادوا على الغبار غطاءً |
من نسيجٍ مضعضَعٍ منهار |
فإذا نمت يكتسي منه وجهي |
بغريب الأصواف والأوبارِ |
فتراني في الصبح أمضغ شَعراً |
وتراباً، برغم حلقيَ، سارِ |
فكأني أكلت نصف فراشي |
وكأني شربت نصف دثاري(15) |
وكأني والصوف كلّلَ وجهي |
نوعُ وحشٍ ما مرَّ بالأفكار |
ويقول في قصيدة ثالثة:
أهلاً بسجني لشهرٍ أو لأيامِ |
فإنما يوم سجني تاجُ أيامي |
قضيتُ حراً، حقوقَ النفس كاملةً |
واليوم في السجن أقضي حق أقوامي |
إن يسجنوني فجرمي يا له شرفاً |
أني أحارب قوماً أهل إجرامِ |
أما الشاعر الفلسطيني توفيق زيّاد، فيتحدى آسره الصهيوني قائلاً:
ألقوا القيود على القيودِ، فالقيد أوهى من زنودي
ليَ من هوى شعبي، ومن حب الكفاح ومن صمودي
عزمٌ تسَعَّرَ في دمي، ناراً على الحطب الشديد
يا طُغمةً أسقيتُها كأس المذلة من قصيدي
لا تحسبي زَرَدَ الحديد ينال من همم الأُسود
حولي الرفاق كأنهم لهبٌ تمنطق بالحديد
في غرفة سوداء لولا حزمة النور البديد
يعلو بها صوت النشيد كأنه قصْف الرعود
وكذلك يفعل محمود درويش، قائلاً:
شُدّوا الوثاقَ وامنعوا عني الدفاتر والسجائر
وضعوا التراب على فمي، فالشعر دم القلب
ملح الخبز، ماء العين، نكتب بالأظافر والمحاجر والخناجر
سأقولها في غرفة التوقيف، في الحمّام، في الإسطبل،
تحت السوط، تحت القيد، في عنف السلاسل
مليونُ عصفورٍ على أغصان قلبي
يخلقُ اللحنَ المقاتل
(1) القنا: الرماح.
(2) عنّاني: حبسني أو آذاني.
(3) الشارق: الشروق.
(4) الكبل المصمَت: القيد المقفل.
(5) غشيَ المكانَ: أتاه.
(6) الأقياد: القيود.
(7) الأطمار: الثياب البالية.
(8) القطمير: القشرة الرقيقة بين النواة والتمرة، تستعمَل للتعبير عن الشيء الذي لا قيمة له.
(9) مكاسير: ضعيفات.
(10) شفني المرض: أضعفني.
(11) السمادير: الغشاوة.
(12) النبأة: الصوت الخفي.
(13) أتقرى الشيء: أتتبعه.
(14) القفار: الصحاري.
(15) الدثار: الغطاء.