الشيخ يوسف سرور
هي الحياة... عندما تنحرف المسيرة التي يفترض أن تكون مثال الأمم عن مسارها، وعندما تكون الزعامات والأزلام، كالخيالات والأقزام، منضوية تحت لواء الأمر الواقع، مأخوذة ببريق الدرهم والدينار، وأسيرة الخوف من وعيد السيف البتار. عندها يصبح التحسر على الحياة الحياة... دأب الشرفاء والأحرار... كانت الأمة قد أدت من الواجب قسطها، وأعطت من الأخيار ما أعطت حتى نالت عزها. كانت طليعة الأبرار وفيّة لسيد الرسالة وأبيَّةً عن ترك الأمانة ليعبث بها الصغار، وينال من صاحبها الأشرار. وعندما ودّع الوحي سماء أهل الأرض، وفاضت روح الأمين إلى جوار بارئها، انقلب المتوثّبون على خير البرية، ومزقوا نتفاً كل أوراق الوصية... عاج الأشقياء، يقضمون التراث قضم الإبل نبتة الربيع...
تحركت حبات الغبار المستقرة في قاع الغدير على وقع الحجارة الملقاة في صفحاتها، حتى إذا ما استقرت صفحة مائها، بدا للناظر من خارجٍ أن الغدير آمن، ولم يعلموا أن الغوص فيها، يبدي من الأعاجيب القاطنة تحت ما يخفيها. حار سكان الغدير في أمر الزمام، ورأوا بأم العين ثورة الغبار التي تعمي الأبصار ويُظن أنها تحجب الحقيقة عن الأنظار، فصار الأمر إلى آخرين... وآلت مقدرات الأمور إلى غير صاحبها... فانحاز أهل الغدير بمعظمهم نحو النعمة وأوليائها، لأنهم كانوا ممن يحبون العاجلة ويذرون الآخرة. جالت الفتنة في كل الحواضر والبوادي، حتى امتدت إلى الأمير يدُ المرادي... وارفضّ الجهلة عن وجه الحقيقة وقلبها، لينفرط العقد المنظومة به أمة.. كانت خير أمة!!
استوطن حبّ الأصفر والأبيض قلوب الطامحين، حتى خلع الثعالب جلود الحملان عن أطماعهم، ليظهر زيف النسك والوداعة، وأميط اللثام عن حقيقة الأنفس التي ما سكنها يوماً حبُّ الأمير، إنما أعمى بصائرها حبُّ الإمارة. وبات الجهلة والحاقدون.. السفلة والظالمون، تعمل سيوفهم برقاب الصالحين، وتمتلئ سجونهم بالبررة والصديقين.. تاه الناس عن الشمس إلى بريق الدينار، وأناخوا رحال قلوبهم الهائمة.. الباحثة عن طوق النجاة في هذا الخضم، ليسلموا رقابهم للأيادي الآثمة.
مرت الأيام ثقيلة على أهل الخير، وتوالت السنون تسحق عجلاتها أصفياءها، ويقتل جهلاؤها حلماءها.. حتى ضجّ المستضعفون من ضياع الأمان، وضاق على أهل الصلاح الخناق.. عربد العتاة يعبثون بمصائر أهل الولاية، فقتلوا هاشماً.. قطعوا رأس حجر.. صلبوا ميثماً على جذع نخلة تعهدها لسنين.. طعنوا قلب رشيد الكبير... قتلوا كميلاً والآخرين حتى قنبرا... انقلبت مقاييس الحياة، وتحولت الحقائق إلى الأوهام... صارت السُّنَّة إلى المبتدعين، وبات وعاظ السلاطين (أساطين) الحديث... ولم يُعد غيرهم من وريث... أظلم الأفق واشتدت العتمة، وكلما امتد الزمان، كلما اشتدت الظلمة.. ما بقي في الأمة من يقظة، غطّت في سبات عميق، تعميها الأموال وترجف قلوبهم مع اشتداد الأهوال.
خرج السبط.. ليصفع الوجوه المترنحة برأسه المرفوع فوق القنا، ويملأ العيون الغافية من قطرات دمه المسفوح فوق ثرى نينوى... وليصبغ أفق الوجود المظلم بلون نجيعه المنثور في فضاء الأمة، ليعلن مخاض فجر جديد إيذاناً بصبح جديد، تشرق فيه الشمس ثانية على بطاح القلوب فيافي النفوس التي أنهكتها الأسفار، ولوثت صفحاتها الأكدار... وليصدح بنداء الحق من جديد، ويعيد السُّنة إلى سبيلها، ويؤكد أن الحياة التي اختطّ أولى خطواتها جده الأكبر لا يمكن للشذاذ والمرتزقة، ولصغار النفوس أن تروّض أهلها لتجعلهم طوع دهائهم والأطماع... وليعلن أن الحياة الحياة... التي ينعم أهلها بالعزة والمنعة والكرامة.. إنما تقودها الدماء الزاكية، والنفوس الصافية، المشدودة قلوبها إلى الثقلين... المعقود لواؤها في هذا الزمان... بيد سادة هذا الزمان... رجال الله.