سماحة السيد حسن نصر الله(*)
عن الإمام الحسين عليه السلام: "إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً". وفي دعاء الافتتاح: "وقتلاً في سبيلك فوفق لنا". كان رسول الله وآل بيته الأطهار يعلّمون المسلمين أن يتمنوا الشهادة ويطلبوها من الله سبحانه وتعالى حتى يوفقهم إليها ليربوا الأمة على هذا المضمون. وهذا التعلق ليس بدون سبب، أي إنه من غير المعقول أن يرى الإمام الحسين عليه السلام الموت سعادة من دون سبب، لأنه ليس هناك من يريد أن يُقتل أو يسعى للتضحية من دون سبب. رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه أهل المعرفة التامة والكاملة وانطلاقاً من هذه المعرفة ومن هذه الحقيقة الإيمانية المطلقة كان يعلّم أهل بيته، وأصحابه، ويعلّم الأجيال إلى قيام الساعة أن يطلبوا الشهادة. هذا طبعاً ناشئ من فضل الشهادة في الدنيا وفي الآخرة، فما هي قيمة الشهادة عند الله؟ وما هي قيمتها عند الرسول وأهل البيت؟ ثم ما هو فضلها، وفضل الشهداء؟
* آيات في فضل الشهادة
الآيات القرآنية في فضل الشهداء وفضل الشهادة كثيرة، ومن هذه الآيات:
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِين﴾ (آل عمران: 169-171).
وهناك آية أخرى قريبة من هذا المضمون ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ (البقرة: 154).
وفي آية أخرى يقول تعالى ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَاب﴾ (آل عمران: 195).
إن الله يغفر لهم ذنوبهم وسيئاتهم بالكامل. من الذي يستطيع أن يثيب عبده أحسن من الله سبحانه وتعالى؟
وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (النساء: 74). الله العظيم هو الذي يصف الأجر الذي سيعطيه لهؤلاء الشهداء بأنه أجر عظيم، فتصوروا ماذا يمكن أن يكون هذا الأجر!. ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ)﴾ (محمد: 4 6).
* أحاديث في فضل الشهادة
بعد أن عرضنا الآيات المباركة التي تتحدث عن أجر الشهيد وفضل الشهادة، ننتقل لعرض الأحاديث التي تحدثت حول هذا الموضوع. يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من نفس تموت، لها عند الله خير، يسرها أن ترجع إلى الدنيا، وأن لها الدنيا وما فيها، إلا الشهيد فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيُقتل مرة أخرى"(1).
أي أن أي نفس تموت، وهي عند الله في خير، تُعرض عليها العودة إلى الدنيا، ولها الدنيا وما فيها فترفض أن تعود إلى الدنيا لأنها في خير عند الله سبحانه وتعالى. وقد اكتشفتْ بالمشاهدة كم أن هذه الدنيا التي نحن فيها صغيرة لا قيمة لها ولا أهمية، ولا تساوي "عفطة عنز" كما ورد عن علي بن أبي طالب عليه السلام، وأنها جيفة، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فترفض هذه النفس العودة إلى الأرض إلا الشهيد. لماذا؟ هل لأنه خسر الدنيا ويريد أن يحصل على شيء منها؟ لا.. الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيُقتل مرة أخرى لما يرى من فضل الشهادة.. عندما يرى هناك أجر الشهداء وفضلهم ومقامهم ومنازلهم، يتمنى أن يعود إلى الدنيا مرة أخرى ليُقتل في سبيل الله، ليزداد هناك مقاماً وأجراً ودرجة وعظمة.
نأتي لأحاديث أخرى، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما روي عنه: "من لقي العدو فصبر حتى يُقتل أو يغلب لم يُفتن في قبره"(2). يعني يُعفى الشهيد والمجاهد الذي قضى حياته في الجهاد، وفي الصبر والثبات من فتنة القبر وعذابه وحسابه، وما شاكل. يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد عنه أيضاً: "ثلاثة يشفعون إلى الله عز وجل فيشفَّعون: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء"(3). وفي رواية أخرى يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "للشهيد سبع خصال من الله: أول قطرة من دمه، مغفور له كل ذنب، الثانية: يقع رأسه في حجر زوجتيه من الحور العين وتمسحان الغبار عن وجهه وتقولان: مرحباً بك ويقول هو مثل ذلك لهما، والثالثة: يكسى من كسوة الجنة، والرابعة: تبتدره خزنة الجنة بكل ريح طيبة، أيهم يأخذه معه، والخامسة: أن يرى منزلته، والسادسة: يقال لروحه اسرحي في الجنة حيث شئت، والسابعة: أن ينظر في وجه الله. وإنها لراحة لكل نبي وشهيد"(4).
إذاً، إذا كانت للشهادة هذه القيمة وهذا الفضل عند الله سبحانه وتعالى، كما تقدم في الآيات وفي الروايات، فمن الطبيعي أن يتعلق بها رسول الله وأهل بيته، والمسلمون الأوائل، والأصحاب والأتباع والأوفياء الصادقون والعباد الصالحون. ويجب أن نتعلق بها نحن أيضاً، ونبحث عنها، لأنها هي الوسيلة الموصلة إلى الله سبحانه وتعالى. أفضل الموت القتل في سبيل الله، وأقصر الطرق إلى الله الشهادة، يقول الإمام الصادق عليه السلام كما روي عنه: "بإنفاق المهج يصل العبد إلى بر حبيبه وقربه". والحبيب هنا هو الله سبحانه وتعالى.
* طلاب شهادة
إذاً، المطلوب منا، رجالاً ونساءً، أن نحمل روح الشهادة، وأن نكون طلاب وعشاق شهادة. أن نقضي شهداء أو لا نقضي؛ هذا أمر بيد الله سبحانه وتعالى، لكن المطلوب منا أن نحمل هذه الروح وأن نمشي في هذه الدرب، و أن تمتلئ قلوبنا بهذا الحب. لقد كان الحسين عليه السلام طالب وعاشق شهادة، وكانت زينب عليها السلام طالبة وعاشقة شهادة، الأنبياء والرسل كلهم كانوا طلاب شهادة. لكن أين يموت الإنسان؟ وكيف يموت؟ هذه مسائل بيد الله سبحانه وتعالى، هو الذي يختار ويشاء على ضوء مصالح العباد، ومصالح الدين التي يشخصها هو سبحانه وتعالى. يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد عنه: "من سأل الله الشهادة بصدق، بلّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه"(5)، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من سأل الله القتل في سبيل الله صادقاً من قلبه أعطاه الله أجر شهيد وإن مات على فراشه"(6).
وهذان الحديثان هما بشارة لنا جميعاً، لأنه قد يطلب أحد منا الشهادة، ولكن لعوامل كثيرة لا ينالها. الجرحى الذين فقدوا بعض أعضائهم، أو أصابهم شلل تام، بحيث لم يعودوا قادرين على متابعة العمل الجهادي، هؤلاء هل حرموا الشهادة؟ هؤلاء نقول لهم ما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من جُرح في سبيل الله، جاء يوم القيامة ريحه كريح المسك ولونه لون الزعفران، عليه طابع الشهداء"(7).
يتبع في العدد القادم
الهوامش:
(*) مقتطف من محاضرة ألقيت في الليلة الثالثة من محرم الحرام سنة 1420ه (بتصرف).
(1) كنز العمال، ح10542.
(2) كنز العمال، ج4، ص313، ح10662.
(3) بحار الأنوار، ج8، ص34.
(4) وسائل الشيعة، ج11، كتاب الجهاد، ص10، ح20.
(5) كنز العمال، ج4، ص421، ح11211.
(6) كنز العمال، ج4، ص421، ح11212.
(7) كنز العمال، ج4، ص408، ح11144.