اخرج إلى الضوء | عندما يكون القائد والداً للمجاهدين مهارات | المساندة النفـسيّة في الأزمات والحروب الملف | كيف نواجه إشاعات الحرب؟ الملف | بصبركنّ... ننتصر الملف | دعاء أهل الثغور: مدد المجاهدين الملف | الشهداء المستبشرون معالم المجتمع الصالح في نهج البلاغة الملف | قيم المقاومة آخر الكلام | تحت الركام.. الافتتاحية | الصبر حليف النصر

الأخوة الإيمانية بين المرتجى والواقع

أمل القّطان

 



يرتكز وجود المجتمع المسلم الصالح، على وجود علاقات سوية بين أفراده، ترتكز على المحبة والتعاون بحيث يعيش المؤمن كعضو في جماعة، وكفرد في أمة مؤمنة من الناس، يسود بينهم التعاطف والانسجام في السراء والضراء.  هذه الصلة العاطفية بينهم نابعة من صلتهم العاطفية بالله، فعندما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله: من أحب الناس إلى الله؟ قال: "أنفع الناس للناس"(1).

الأخوة في عهد الرسول:
إن ابتناء الأخوة على أساس الرحمة والاحسان وقضاء الحوائج، من أهم سمات وميزات العلاقات الاجتماعية في الاسلام. لقد أكد القرآن الكريم على أن الشعور بالإخاء هو الشعور بوحدة النسب؛ نسب الايمان والعقيدة، فقال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (الحجرات: 10). هذا النسب يتجاوز معاني النسب إلى العائلة والقوم، لذلك نرى رسول الله صلى الله عليه وآله قد آخى بين المسلمين في مكة، وآخى بين المهاجرين والأنصار في المدينة. وكانت هذه المسألة من ركائز بناء الدولة الإسلامية، وإيجاد المجتمع المسلم، ولقد تقاسم الأنصاري مع أخيه المهاجر ماله ورزقه وبيته، حتى أن القرآن خلّد هذا التآخي بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (الحشر: 9).

تبين الآية ثلاث سمات للأنصار؛ المحبة، وعدم الطمع، والإيثار. وقد نقل المفسرون قصصاً متعددة في شأن نزول هذه الآية، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بني النضير للأنصار: "إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة" فقال الأنصار: "بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها"، فنزلت ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وقيل نزلت في سبعة عطشوا في يوم أحد، فجيء بماء يكفي لأحدهم، فقال واحد منهم ناول فلاناً، حتى طيف على سبعتهم، وماتوا ولم يشرب أحد منهم، فأثنى الله سبحانه عليهم. وقيل نزلت في رجل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: أطعمني فإني جائع، فبعث إلى أهله، فلم يكن عندهم شيء، فقال: "من يضيفه هذه الليلة؟" فأضافه رجل من الأنصار، وأتى منزله، ولم يكن عنده إلا قوت صِبية له، فأتوا بذلك إليه، وأطفأوا السراج، وقامت المرأة إلى الصبية، فعللتهم حتى ناموا، وجعلا يمضغان ألسنتهما لضيف رسول الله صلى الله عليه وآله، فظن الضيف أنهما يأكلان معه حتى شبع الضيف، وباتا طاويين، فلما أصبحا، غدَوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فنظر إليهما وتبسم، وتلا عليهما هذه الآية..(2). وقد رويت نفس القصة عن السيدة فاطمة وأمير المؤمنين، ولعل ما ورد من قصة أحد وقصة الأنصاري وأمير المؤمنين من باب التطبيق، الذي يدل على شيوع هذه الفضيلة بين المسلمين.

مستلزمات الأخوة:
يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (الحشر: 10). تصف هذه الآية بعداً آخر من أبعاد الأخوة الإيمانية؛ وهي الدعاء للمؤمنين، وطلب المغفرة لهم، والتماس العون من الله لتطهير قلوبهم، وتهذيب أنفسهم من الحقد والحسد والبغض والعداء. وهذه الأمور من أصعب مستلزمات الأخوة، فالدعاء الصادق للمؤمن في جميع الحالات، خصوصاً حال الغضب والمنع والإساءة والأذية، من الأمور المستصعبة والتي لا يقدر عليها إلا من سدّده الله وطهّر قلبه. فكم منّا من لا يطيق من أخيه أدنى إساءة؟ وكم منّا من يمتلئ قلبه حقداً وغيظاً لأذيّة لحقت به، قد لا تكون مقصودة ؟ كم منا في هذه اللحظات يستطيع أن يلتمس لأخيه عذراً أو يحمله على محمل حسن، أو يقدر أن يدعو له بالهداية ولا يدعو عليه؟ كم نسمع من بعضنا تعبير "الله لا يسامحك" "الله ينتقم منك" "الله لا يوفقك"؟

والسؤال هنا، هل هذه المواقف مرضية من الله ورسوله وتنسجم مع سيرة المعصومين عليهم السلام؟ لنعرض بعض مواقف أهل البيت ونقارن بين ما فعلوه عندما واجهوا الإساءة، وبين ما نفعله نحن.  لقد قدّم لنا أهل البيت عليهم السلام أسمى وأعلى نموذج للأخوة الايمانية، وجسدوا معاني المحبة والتسامح، حتى مع أعدائهم ومخالفيهم، فلا نرى في سيرتهم غير سيرة المحبة والعطف والرأفة. فها هي الزهراء عليها السلام عند احتضارها تذهل عن الدعاء لنفسها، كما هي سيرة حياتها، وتدعو الله أن يغفر للعصاة من أمة أبيها(3). والإمام الحسين عليه السلام يقف يوم عاشوراء يبكي على أعدائه، لأنهم سيدخلون النار بسببه. وأمير المؤمنين عليه السلام يوصي ابنه الحسن عليه السلام أن يرفق بابن ملجم، ويرحمه، ويحسن إليه، ويقول: "نحن أهل بيت لا نزداد على الذنب إلينا إلا كرماً وعفواً، والرحمة والشفقة من شيمنا.."(4).

 وكان الإمام موسى بن جعفر عليه السلام يبلغه عن الرجل أنه يؤذيه فيبعث إليه بصرّةٍ فيها ألف دينار(5).  إن ودّ المؤمنين لبعضهم البعض من أعظم شعب الإيمان، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله: "ود المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان. ألا ومن أحب في الله وأبغض في الله، وأعطى في الله، ومنع في الله، فهو من أصفياء الله"(6). إن حبّ المؤمنين نتيجة طبيعية لحب الله تعالى، لأنهم مرتبطون بالله بأسمى معاني الارتباط. وحب الشيء ينبسط وينسحب على ارتباطاته ومتعلقاته(7). ولاتخاذ الأخ الصالح تأثير كبير على شخصية الإنسان وصلاحه، وعون له على فعل الخيرات، واجتناب المنكر، والتحصين من الانحراف. فالمرء على دين خليله فلينظر أحدنا من يخالل.  والتحدي الذي يواجهنا هنا هو كيف نكتسب الإخوان؟ والأصعب منه كيف نحافظ على أخوتهم؟

إن الإيمان بالله، والإخلاص له، وحبه ينبسط على المؤمنين حباً ورحمة وإخلاصاً، بحيث إن تمكّن مشاعر الأخوة في المؤمن يخرجه من مشاعر الأنا والاستقلال، ويطهر قلبه من الأثرة. وهذا هو جوهر البناء الداخلي الروحي للمؤمن، فكل ما في الكون هو مورد حب المؤمن، لأنه واقع تحت رحمة رب العالمين الرحمانية الشاملة للعالم بأسره "فلم لا يكون من شملته العنايات والألطاف والمحبة الإلهية موضعاً لمحبتنا؟.. ولو زال الحجاب لاتضح لنا أن كل ما هو منه جل وعلا محبوب، وكل ما هو مبغوض فليس منه، وهو بالتالي ليس موجوداً"(8). فأمير المؤمنين يشير إلى أن "الإخوان في الله تعالى تدوم مودتهم، لدوام سببها"(9).

والمؤمن الذي يريد اكتساب الإخوان والمحافظة عليهم عليه أن يحسن لهم ويجتنب المزاح المؤذي، وكذلك المماراة والمجادلة العقيمة التي تعكر صفو القلوب، وكذلك البعد عن المباهاة والتفاخر، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "يابن النعمان، إن أردت أن يصفو لك ود أخيك فلا تمازحنّه، ولا تمارينّه، ولا تباهينّه، ولا تشارّنّه". وفي حديث آخر يقول سلام الله عليه: "يحتاج الإخوة فيما بينهم إلى ثلاثة أشياء، فإن استعملوها وإلا تباينوا وتباغضوا، وهي : التناصف، والتراحم، ونفي الحسد"(10).

أخيراً علينا أن نؤمن أن المؤمن يحتاج إلى إخوانه في الدنيا والآخرة، فالله في عون المؤمن ما كان المؤمن في عون أخيه، والأخ الصالح من يعينك على طاعة الله ويصدك عن معاصيه ويأمرك برضاه(11).


(1) الكليني: أصول الكافي، ج 2، ص 170 .
(2) الطبرسي: مجمع البيان، ج9، ص332.
(3) الهمداني، أحمد: فاطمة الزهراء عليها السلام بهجة قلب المصطفى، ص 576.
(4) القمي، عباس: منتهى الآمال، ج1، ص 247.
(5) الريشهري: محمد: منتخب ميزان الحكمة، ص 49 .
(6) الكليني: (م،س)، ج2، باب الحب في الله ح3.
(7) يراجع: معن، حسين: نظرات في الاعداد الروحي، ص 144.
(8) الإمام الخميني: وصايا عرفانية، ص30 .
(9) الريشهري: (م،س)، ص 13 .
(10) المرجع نفسه، الصفحة نفسها .
(11)المرجع نفسه، ص 15 .

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع