موسى حسين صفوان
قد يكون من المنطقي إلى حدٍّ ما أن تشهد الساحة الثقافية العربية صراعاً فكرياً بين نهجين أو خيارين، الأول ما زال يصرّ على تبني مشروع مقاومة الإحتلال الإسرائيلي ويرفض أي نوع من أنواع المساومة معه، مدعماً موقفه بعرض تاريخ طويل ومرير مع هذا العدو الذي لم يتراجع عن مشروعه التوسعي قيد أنملة إلا تحت وطأة المقاومة والمواجهة العسكرية، ولا يعير اهتماماً لجميع القرارات الدولية مهما كانت خجولة ومنحازة... بينما يقدم النهج الآخر رؤىً مختلفة لترجيح كفة مبادرات السلام، بدءاً من كمب ديفيد مروراً بوادي عربة، ووصولاً إلى المبادرة العربية التي أطلقها الملك عبد الله في بيروت. وربما تذرع أتباع هذا الخيار بسياسة الممكن، وتردي الوضع العربي، والإرادة الدولية، واختلال موازين القوة، والدخول في عصر العولمة، والنهوض الاقتصادي، والديمقراطية وما إلى ذلك...
ومهما كان مستوى النزاع بين هذين التيارين، تبقى من المفروض هناك ثابتة أساسية، لم يدخل في روع أحد من المراقبين أنها ستصبح موضع خلاف في يوم من الأيام، وهي اعتبار الكيان الصهيوني كياناً غاصباً، محتلاً، عنصرياً، يرتكب المجازر ويمارس الإرهاب دون حسيب أو رقيب. إلا أن ما طالعتنا به بعض الأقلام في أكثر من صحيفة عربية مشهورة يدعو للدهشة والاستغراب... باتت هناك أقلام عربية، ليس فقط أنها تخدم المشروع الإسرائيلي من حيث لا تدري، بل إنها ذهبت إلى أبعد حتى من حدود توقعات رئيس وزراء الكيان الغاصب، خاصة قبيل وبعد حرب غزّة. فعندما تُرجم مقال الكاتب الكويتي عبد الله الهدلق لإيهود أولمرت، قام عن كرسيه ورفع يديه في الفراغ متلفظاً بكلمات النشوة واقترح ترشيحه لأعلى وسام في (إسرائيل)(1). ومن جهة أخرى: أوصت وزيرة خارجية الإحتلال بنشر مقالات عدد من الكتاب العرب على الموقع الرسمي للوزارة باعتبارها مقالات تمثل وجهة النظر الإسرائيلية في العالم العربي، وقالت في اجتماع خاص: "إن هؤلاء سفراء (إسرائيل) لدى العالم العربي!!!"(2). ترى ماذا كتب هؤلاء، وهم بالعشرات وينتمون لأكثر من بلد عربي لينالوا هذا الشرف العظيم؟!! مقتطفات:
1 -في مقال له نشره في 21 كانون الأول 2008، قال عبد الله الهدلق: "قال نائب وزير الدفاع الإسرائيلي "ماتان فلنائي": إن شن عملية عسكرية واسعة على قطاع غزّة هو مسألة وقت..." وبعد أن شمل كعادة أمثاله الجمهورية الإسلامية بنقده وتوعده، قال: "أين المفر أيها الإرهاب الفارسي ويا إرهاب حماس والجهاد بعد التهديد النهائي الإسرائيلي"؟!!(3) وفي اليوم نفسه، قال في صحيفة أخرى: "أيها الجيش الإسرائيلي، عليكم بالإرهابيين الفلسطينيين المؤتمرين بأوامر الإرهاب البعثي الفارسي، لاحقوا متمردي (حركة حماس) ومعتوهيها... واسحقوهم وأبيدوهم ولقنوهم درساً لن ينسوه إلى الأبد"!!! ولم يكن هجومه على حماس والجهاد لمصلحة السلطة الفلسطينية، فها هو يقول: "وتنازعت الفصائل الفلسطيينية الإرهابية، ففشلت وأذهب الله ريحها"، ويقول: "لقد جُبل كثير من القادة الفلسطينيين على الغدر والخيانة والإساءة لمن أحسن إليهم ونكران الجميل. وما تتعرض له يومياً هذه القيادات على أيدي الجيش الإسرائيلي هو جزاؤهم"(4). وجرت الحرب، وفي الثاني من شباط 2008 وفي الصحيفة نفسها، وبعد أن خيب الإسرائيليون أمله، بث كل سمومه في مقاله في صحيفة الوطن فحرك الفتنة المذهبية، واستثار كوامن العصبية الدينية، ولم يشفِ غلّه حتى قال: "يا أهل غزّة، ويا عقلاءها، أليس منكم رجل يدعو ويتكاتف معه عصبة آخرون ويطيحوا بحماس المندحرة ويسقطوا تلك الإمارة الطاغية؟"(5).
2 -نموذج آخر لكاتب كردي سوري يُظهر حضارة إسرائيل وراديكالية المقاومات العربية فيقول: "الحرب القائمة اليوم في غزّة هي حرب بين دولة علمانية ذات نظام ديمقراطي تحترم أو على الأقل تدعي أنها تحترم حقوق الإنسان وجماعة راديكالية تعتبر الديمقراطية جسراً، الغاية منه الوصول إلى السلطة". وبعد سرد تاريخي، يقول: "وجود اليهود في المنطقة يسبق هذا التاريخ، بل إن قلب العالم العربي والإسلامي المدينة المنورة (يثرب) كان أكثر من نصف سكانها من اليهود، وأنا وأنتم نعلم ماذا حلّ بهم"!!! ثم يقول: "لو تخلصنا من عصبياتنا القومية والدينية، سنرى أن وجود إسرائيل كنظام ديمقراطي هو نعمة للشرق، فهو مصدر التكنولوجيا ورأس المال المالي والبشري، وستكون جوهرة تاجنا الشرق أوسطي وبوابة تحضرنا ورفاهيتنا في القرن الواحد والعشرين"!!!. وفي كلام أخطر من ذلك يقول: "لقد حان الوقت لنفك العصبة حول أعيننا ولنرى أن إسرائيل واقع وعلينا التعامل معها... بل علينا الإعتراف بإسرائيل بالماضي قبل الحاضر، يعني أن نبدأ بتصحيح تاريخنا..."(6).
3 - وهناك نماذج أخرى على هذا النمط، فهذا يدعو إلى المصافحة والمكاشفة ويؤيد مصافحة شيخ الأزهر لرئيس الكيان الإسرائيلي "بيريز"، وآخر يعتبر العقلانية العربية أن تسكت عن سحق الشعب الفلسطيني، وغيره يشيد بالديمقراطية اليهودية ويحسِّن صورة اليهود ويصرف النظر عن مجازرهم وإرهابهم، وآخر يتحسَّر على الحلم العربي الذي لا يمكن أن يتحقق مع وجود منظمات إرهابية مثل حماس وحزب الله(7). وإن كان من العسير أن تحمل مثل هؤلاء الكتّاب على أي مقدار من حسن الظن، فإنك تجد آخرين يشرِّحون الواقع العربي ويحمِّلون المسؤولية لنهج المقاومة فيخدمون العدو ربما من حيث لا يشعرون. يقول أحدهم: "مشكلة العرب في ظني أنهم اختزلوا قضاياهم إلى قضية واحدة، القضية الفلسطينية أو "القضية""... إلى أن يقول: "إسرائيل ومن ورائها الغرب، لم تمنعنا ولا تستطيع أن تمنعنا من بناء مدارس جيدة ووضع مناهج دراسية..."(8). ولا نجد لمثل هذه الطروحات ما يبررها، وليس هناك ما يبرر الخطاب المستلب إن لم نقل المتآمر، وفي كل الحالات ينبغي أن نؤكد على الكتّاب أن العدو المتربص بنا جميعاً سيستفيد من كل قلم لا يحسن توجيه الكتابة وجهتها الصحيحة، وأن أي تطور وتقدم لا يمكن الوصول إليه ما لم تكتمل السيادة الوطنية والعربية، وأن التاريخ بدون أدنى شك سيكون شاهداً وحاكماً على كل من يطعن خاصرة أمته ولو بحرفٍ يخطه على الورق.
(1) صحيفة (الحركة) بوق حركة حدس الإعلامي، عدد 147.
(2) المركز الفلسطيني للإعلام (تقرير 28/1/2009).
(3) عبد الله الهدلق: أين المفر، جريدة الرأي الكويتية، 21 كانون أول 2008.
(4) الهدلق: جزاء قيادات الغدر والخيانة، الوطن الكويتية، 21 كانون أول 2008.
(5) الهدلق: الوطن الكويتية، 2 شباط 2009.
(6) عزيز برو: موقع تواصل www.altawasul.net 3 شباط 2009.
(7) موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية، 5 كانون الأول 2007.
(8) تركي الحمد: العرب والمعضلة الإسرائيلية، صحيفة القدس، 20 تشرين الثاني نوفمبر 2008.