مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

هل آتى طلب الإصلاح أُكلُه؟

الشيخ حاتم اسماعيل

 



إن من أشهر الأحاديث المتداولة والمنقولة عن الإمام الحسين عليه السلام في حركته المباركة، هو قوله عليه السلام: "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد صلى الله عليه وآله، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر"(1). وغدا هذا الحديث الشريف شعاراً، ترفعه وتتغنى به سائر الحركات الثورية والتغييرية، على مدى التاريخ، الذي تلا حركته الشريفة. والسؤال الذي يطرح نفسه في المقام، هو: هل وصل الحسين عليه السلام إلى تنفيذ هذا الشعار الذي رفعه كإعلان لحركته وثورته المباركة؟ بمعنى هل أن ثورته قد بلغت الغاية التي انطلقت من أجلها، أم أنها بقيت شعاراً أو رمزاً، دون أن يكون لها أثر عملي، بعد مقتله عليه السلام وأهل بيته وأصحابه؟

* بين الشعار والهدف
مما لا شك فيه أن الجواب على السؤال المذكور يكتسب مصداقيته، بشكل رئيس، ويُحكم عليه سلباً أو إيجاباً، من خلال ملاحظة مدى الانسجام والتوافق بين الشعار المرفوع والهدف الذي يسعى الثائر لإنجازه، وتحقيق هذا الهدف بالفعل. ولا بد من الإشارة في البداية إلى أن أهمية الهدف، ومدى تحقيقه، لا تتوقف على النتيجة المباشرة والمحسوسة للعمل، أو الحركة. والذي يحدد أهمية الهدف، وما يتناسب مع الموضوع الذي يترتب عليه ذلك الهدف، هو الذي يحدد مقدار التضحية، التي يجب دفعها للوصول إليه. فإن من غير المنطقي، ولا من العقلاني، أن تكون التضحية كبيرة جداً، بينما يكون الهدف المترتب عليها هزيلاً أو معدوماً. كما أن أي حركة تغييرية أو اصلاحية، يجب أن تكون مدروسة بعناية زائدة، سواء من حيث منطلقاتها، أم من حيث نتائجها، خصوصاً إذا كان الثمنُ فيها دماءً تراق، ونفوساً وأرواحاً تزهق.

* الإصلاح هو الهدف
لقد طرح الإمام الحسين عليه السلام عنوان الإصلاح كهدف رئيس، بل وحيد لحركته المباركة. ومن الواضح أن عنوان الإصلاح لا يمكن أن يتحقق ويبرز إلى العلن، إلا إذا انتشر الفساد واستفحل في الأمة، وإلا، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا زال قائماً منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، ولم يقم أحد قبله عليه السلام بهذا النوع من التغيير، حتى أمير المؤمنين عليه السلام الذي عانى من الأمة ما عاناه. وهذا يقتضي ملاحظة ما وصلت الحال إليه في الأمة الإسلامية، حتى غدا عنوان الإصلاح هدفاً، يستحق أن تبذل في سبيله أسمى المهج وأعلاها عند الله تعالى.

نستلخص مما تقدم أنه عليه السلام قد فقد الأمل في إنقاذ الأمة الإسلامية، من دون تسجيل مأساة كبرى في تاريخ الإسلام، بل في تاريخ الإنسانية كلها، يمكنها أن تبقى حاضرة في أذهان الناس، وتكون معيناً فياضاً في استنهاض النفوس، وتحريك العواطف والعقول والهمم كلما حل بالأمة فساد أو ركود، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

* بدايات الانحراف
لقد بدأ الانحراف، والابتعاد عن المفاهيم الإسلامية الحقة، منذ رحلة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله عن هذا العالم، وأخذت تحل مفاهيم أخرى طارئة على المجتمع الإسلامي شيئاً فشيئاً.  إلا أن الذين كانوا على رأس هرم السلطة، في تلك الفترة، كانت تحكمهم مجموعة من الاعتبارات، التي لم يكن من الممكن تجاوزها: منها قرب عهد الناس من رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد عاصروه وخبروا سيرته، ولم يكونوا قد نسوا مقولاته الشريفة وسياساته الحكمية في الدولة الإسلامية الفتية، والتي نصت على أن أي تغيير وانقلاب على سياسات النبي الأعظم، سيكون مكشوفاً ومفضوحاً، لا يمكن تجاهله، وسيكون من الصعب عليهم تنفيذه والقفز فوقه. ومنها أن هؤلاء الحاكمين كانوا يزعمون أنهم يحكمون الناس، بصفتهم خلفاء للرسول صلى الله عليه وآله، وهذا بنفسه يحد من قدرتهم على تغيير المفاهيم الإسلامية بشكل ظاهر وواضح، فإن أي تلاعب وتغيير سيؤدي إلى قيام الناس بوجههم، وفي مقدمتهم أهل البيت عليهم السلام، وعلى رأسهم علي عليه السلام. وهذا ما يفسر سكوت علي عليه السلام عن المطالبة بحقه في الخلافة، وسعيه إلى تحصين الناس في دينهم، وفي مفاهيمهم الدينية، الأمر الذي يشكل ضمانة لبقاء الدين حياً في النفوس قدر الإمكان، ولو على مستوى النظرية والسلوك الفردي لدى أفراد الجماعة الإسلامية. وهو ما كان يتجلى في سلوكيات الحكام، من تراجع عن مواقف اتخذوها، بعد حركة علي عليه السلام أو أصحابه في وجوههم، فكانوا يصرحون بين الفينة والأخرى بقصورهم في المعرفة، وحاجتهم إلى رأي علي عليه السلام وسائر الصحابة المخالفين لسياساتهم.

* سيطرة الفساد في الأمة
إلا أنه مع استيلاء يزيد بن معاوية على مقاليد الحكم، وتسلطه على رقاب الناس، وهو المعروف بالفسق والفجور، وشرب الخمور، وغير ذلك من المفاسد الكبرى، كما صرح بذلك الإمام الحسين عليه السلام نفسه، وقد تربى في بيئة معادية للإسلام أصلاً، بالإضافة إلى أن تباعد الفترة الزمنية تلك عن العهد النبوي الشريف، أدى إلى نشوء أجيال جديدة، بعيدة كل البعد عن المفاهيم والقيم الإسلامية الأصيلة، لم يبق أي مجال للإصلاح والتصويب بواسطة الكلمة والموعظة، ونتيجة لذلك فإن عدم القيام بحركة إصلاحية كبرى، وإحداث صدمة معاكسة في ضمير الأمة، تعيدها إلى جادة الصواب، سيؤدي حتماً إلى انهيار الأمة الإسلامية، والقضاء على ما بناه النبي الأعظم صلى الله عليه وآله، وحرص على إقامته، خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار أن من طبيعة الناس التأثر بسياسات الحكام وشخصياتهم إلى حد بعيد، خصوصاً في ما تميل إليه النفوس، مما ينعكس سلوكاً سلبياً في وجدان الأمة. إلا أن محاولة فهم الحركة الحسينية على أنها انقلاب على نظام الحكم القائم، وسعي إلى استلام مقاليد الحكم، من دون تغيير إيجابي في وجدان الأمة، يعيدها إلى القيم والمفاهيم الحقة، تشكل خطأ فادحاً في فهم الحركة الحسينية، وفي ترتيب النتائج المترتبة عليها، وظلماً للحقيقة التي سعى الحسين عليه السلام إلى إبرازها وبيانها، وهو ما لا يتوافق مع التصريحات التي أطلقها عليه السلام في بداية نهضته المباركة، والتي حددت مسارها، وأشارت إلى نتائجها الواقعية والمرجوة، من قبيل كلامه الشريف الذي صُدرت به هذا المقالة، وقوله عليه السلام "شاء الله أن يراني قتيلاً"، وقوله بحق نسائه "شاء الله أن يراهن سبايا"، كما يتنافى مع سير الأحداث والوقائع الخارجية، والحكمة العالية التي يتمتع بها الإمام الحسين عليه السلام، فإن من غير المنطقي ولا من العقلائي، أن يخرج في سبيل تغيير نظام الحكم، ويثور بوجه السلطة القائمة، والتي تملك زمام الأمور، وتهيمن على نقاط القوة في الدولة، وهو لا يملك سوى نفسه وأفراد عائلته، وصحابة لا يتجاوز مجموعهم سبعين رجلاً. وعلى فرض نجاحه في مهمة قلب نظام الحكم، والسيطرة على مقاليد الأمور، وهو أمر بعيد في نفسه، بملاحظة الإمكانات المادية والبشرية لدى الفريقين، فمن غير الممكن أن يصل إلى غايته الكبرى، وهي إصلاح المجتمع الذي يريده، على كافة المستويات، وهو يتنافى مع الشعار الذي أطلقه، معللاً خروجه المبارك بوجههم.

* تقييم النهضة ونتائجها
استناداً إلى ما تقدم، نرى أن دوافع النهضة الحسينية وأهدافها لم تكن السيطرة على الحكم، لمجرد عزل فريق وإحلال آخر محله، وأن غاية هذه النهضة المباركة كانت إحداث اهتزاز كبير في وجدان الأمة، وإيقاظ الناس وتنبيههم إلى الخطر المحدق بهم، وإحياء الوجدان السليم، والقيم الدينية الحقة في نفوسهم، والإبقاء على المفاهيم الحقة لديهم، وبيان أن حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يمكن أن تكون مؤقتة بزمان خاص، ولا مؤطرة بأطر مفروضة من قبل السلطات الحاكمة، فإنه يمكن القول بوضوح تام، إن النهضة الحسينية المباركة قد آتت أكلها، ووصلت إلى الغاية التي انطلقت من أجل تحقيقها. وهكذا، غدت واقعة الطف نبراساً يحتذي به الباحثون عن الحرية والحق، وعنواناً يقتفي أثره الساعون إلى إحياء القيم الإنسانية، وغدا الحسين عليه السلام وأصحابه مَعيناً يرتشف مناهله العذبة كل المستضعفين في الأرض على مدى الدهور. وكفى بذلك ثمرة مباركة، لشجرة النبوة المباركة.


(1) السيد المرعشي، شرح إحقاق الحق، ج11، ص602.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع